Sunday, January 27, 2008

تطور مفهوم السجن ووظيفته

تطور مفهوم السجن ووظيفته

بسم الله الرحمن الرحيم
بداية وللأمانة العلمية أود أن ألفت انتباه القارئ الكريم أن الموضوع هو عبارة عن بحث مقدم بإسم الدكتور عبد الفتاح خضر ضمن أبحاث الندوة العلمية الأولى حول " السجون مزاياها وعيوبها من وجهة النظر الإصلاحية " عن المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب ـ الرياض 1401 هـ ـ 1981 م .
المقدمة :
تمثل مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي حلقة هامة من حلقات السياسة الجنائية الحديثة ، حيث يتم في هذه المرحلة تحقيق هدف أو أهداف الجزاء الجنائي التي يتم التخطيط لتحقيقها في المرحلة القضائية وتسعى المؤسسات العقابية إلى وضعها موضع التنفيذ في المرحلة التنفيذية ، كل ذلك من أجل القضاء على الخطورة الإجرامية لدى الجناة .
وكان مضمون التنفيذ العقابي في العصور القديمة والوسطى خاليا من الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية اللازمة لإصلاح الجنائي ، ثم بدأ هذا المضمون في التحول شيئا فشيئا إلى أن اصبح الإصلاح هو الهدف الأول الذي تسعى إليه المؤسسات العقابية مع الحفاظ على هدف العدالة وهدف الردع نسبيا كما سنرى .
وقد أثبتت الدراسات العلمية الجنائية ـ بعد ظهور علم الإجرام ـ أهمية العناية بالخطورة الإجرامية لدى الجناة ، الناشئة عن عوامل متباينة ، للعمل على استئصالها بالوسائل العلمية ، من أجل إصلاح الجناة ، والحيلولة بينهم وبين العودة إلى الانحراف الإجرامي مرة أخرى .
وتهدف هذه الدراسة إلى بيان ما يجب على المؤسسات العقابية المعاصرة في العالم العربي أن تتبعه ، إزاء الانماط الخطرة من المسجونين ، الذين يقترفون أبشع الجرائم ويفلتون من العقوبة الاستئصالية لسبب أو لآخر ، ويعاقبون بالحبس لمدة معينة ، بعدما برزت أهمية الهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي ، وفي مقدمته العقوبة السالبة الحرية .
ومنهجنا في هذه الدراسة منهج استطلاعي في ضوء مضمون النظام الجنائي الإسلامي . ويناء عليه فقد اشتملت على بيان تطور مفهوم السجن عبر العصور المختلفة وتطور وظيفته ، ونظرا لارتباط ذلك بتطور أهداف الجزاء الجنائي ، فقد سلكنا سبيل البحث عن تطور الأهداف لأنها هي التي تحدد مضمون التنفيذ العقابي في كل مرحلة من مراحل التطور الذي انتهى ـ كما ورد جليا في هذه الدراسة ـ إلى تأكيد أهمية الهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي .
كما اشتملت الدراسة بعد ذلك ، على متطلبات تحقيق هدا الهدف الإصلاحي في المرحلة التنفيذية ، سواء من أجل العلاج أو التهذيب أو من حيث إعادة التوافق الاجتماعي والتأهيل للعودة إلى المجتمع ، بعد القضاء على الخطورة الإجرامية في شخصية السجين .
أولا : مصاحبة تطور مفهوم السجن ووظيفته ، لتطور أهداف الجزاء الجنائي .
السجن مفهوم قديم وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام في قوله تعالى " قال السجن أحب إلي ..... " وذكر أنه دخل السجن ولبث فيه بضع سنين ، ووجد السجن في جميع الأزمان والأمصار دون إنكار وبرزت أهميته والمصلحة من وجوده وإن اختلفت هذه المصلحة ووظيفة السجن على مر الزمان .
بناء على ذلك نقسم مراحل تطور السجن على النحو التالي :
1 )
في العصور القديمة :
كان هدف العقوبة هدفا انتقاميا ، وتطور هذا الانتقام من الانتقام الفردي حيث ينتقم الفرد لنفسه بنفسه ، إلى الانتقام الجماعي بالقصاص من الجاني تحت إشراف الجماعة أو العشيرة ، إلى الانتقام الديني في ظل نظام القبيلة التي تكونت من مجموعة من العشائر ، إذ كان شيخ القبيلة يستند في حكمه إلى الدين ، لمحاولة إرضاء الشعور الديني ، ومع ذلك فقد غلب على العقوبة طابع الانتقام الجنائي .
وكانت العقوبات بدنية في معظمها ، ولم تكن هناك حاجة إلى السجون بالمعنى الذي عرف فيما بعد كوسيلة لنتفيذ عقوبات سالبة للحرية ، حيث لم يكن سلب الحرية معروفا كعقوبة آنذاك ، وإنما كانت السجون لإيواء من حكم عليهم بعقوبات بدنية انتظارا لموعد تنفيذها ، وإيواء من اقترفوا جرائم ، انتظارا لمحاكمتهم ، فضلا عن استخدام السجون أحيانا لأغراض سياسية حيث كانت معتقلا لمن يرى الحاكم في وجودهم طلقاء تهديدا لسلطانه ، وكانوا يودعون في السجون لمدد غير محدودة .
2 )
في العصور الوسطى :
كان هدف العقوبة في هذه المرحلة يتمثل في تطهير الجاني وكان للديانة المسيحية آنذاك أثر في التحول إلى هذا الهدف ، كما ادت مبادئ التسامح و الرحمة التي تدعو إليها المسيحية في توقيع وتنفيذ العقوبات إلى التخفيف أو الحد من تعذيب الجناة ، بيد أن هذ الأثر ظل محدودا حيث استمرت العقوبات تتسم بالقوة وعدم الإنسانية .
أما السجون في هذه الفترة من التاريخ فقد كانت مهملة من جانب الدولة ، وكانت عبارة عن أبنية مظلمة غير صحية ، تمارس فيها شتى أساليب التنكيل وتعذيب الجناة والمتهمين ، ولم تكن هناك أدنى عناية بالنواحي الإنسانية ، حتى أن السجن كان يضم النساء إلى جانب الرجال بلا عازل أو تصنيف .
إلا أنه كان للمسيحية أثرها في نظم السجون ، حيث طالب رجال الدين بتحسين معاملة المسجونين والعناية بهم وتعليمهم وتهذيبهم وتوجيه النصح لهم ، وكان لذلك أثره إلى حد ما في وضع بعض القواعد لتنظيم السجون تضمن بعض الحقوق الإنسانية للمسجونين ، وبتأثير ما لرجال الدين من نفوذ نفذت هذه القواعد وكان لها أثرها في التشريعات الجنائية وقتئذ .
3 )
في العصور الحديثة : ( الثورة على أساليب التعذيب والانتقام ، والاتجاه إلى الهدف الإصلاحي )
في هذه المرحلة ظهرت بعض الحركات الإصلاحية التي تناولت القانون الجنائي برمته من المرحلة التشريعية إلى التنفيذية مرورا بالقضائية ، وتفاوتت درجة ونوعية الأفكار الإصلاحية بحسب طبيعة فلسفة كل مدرسة من المدارس الفكرية والجنائية التي ظهرت في هذه الفترة ، ابتداء من المدرسة التقليدية وانتهاء بمدرسة الدفاع الاجتماعي في صورته الجديدة للمستشار الفرنسي مارك آنسل ، وفيما يلي موجز فلسفة و أفكار هذه المدارس .
أ ) في فكر المدرسة التقليدية الأولى : ( المنفعة الاجتماعية والردع العام ) .
ظهرت هذه المدرسة في النصف الأخير من القرن الثامن عشر على يد الفقيه الإيطالي سيزاري دي بيكاريا ( 1738 ـ 1794 م ) الذي أعلن الثورة على قسوة العقوبات وبشاعتها ، فضلا عن إدانته لتعسف القضاة وتحكمهم في مصائر المتهمين .
وكان الغرض من العقوبو في هذه المرحلة زجر الجاني حتى لا يكرر اقترافه للجرائم ، وردع غيره حتى لا يقلده فيها .
وبناء على ذلك نادى بيكاريا بضرورة إحداث إصلاح اجتماعي في السجون ، بيد أنه لم يتم إلا في الحدود الضيقة التي تتفق مع الهدف النفعي من العقوبة كما رسمه بيكاريا ومن تزعم معه اتجاه هذه المدرسة التقليدية ، ولذا كان نفيذ العقوبات على نحو جامد وبأسلوب سلبي ، دون أدنى تفكير في تفريد أوتصنيف ، و الاكتفاء بإلغاء أساليب التعذيب .
ب ) في فكر المدرسة التقليدية الثانية : ( العدالة ثم الردع العام ) :
قامت هذه المدرسة من حيث أساسها الفلسفي على نظرية العدالة المطلقة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724 ـ 1804 م ) الذي حدد الغاية من العقاب بإرضاء شعور العدالة لذاتها مجردة عن فكرة المنفعة الاجتماعية التي قامت عليها المدرسة التقليدية الأولى ، فالأذى الذي تحدثه الجريمة لا يصلح إلا عن طريق التكفير والتطهير بالعقاب وأن العقوبة هي عدل الجريمة ـ كما قال هيجل ـ لأنها باقترافها ( أي الجريمة ) تعد نفيا للعدالة التي يقررها النظام القانوني ، ولذا تكون العقوبة نفيا لذلك النفي .
ولم يقتصر هدف العقوبة عند هذه المدرسة على العدالة بل حافظت كذلك على هدف الردع العام ، وكانت العدالة أولا والردع العام ثانيا .
وقد ترتب على تأسيس أفكار هذه المدرسة على فكرة العدالة ، التفكير في مبدأ تناسب كيفة تنفيذ العقوبة والظروف الشخصية للمحكوم عليه ، ولكن بصورة محدودة حيث كان ذلك نتيجة لما طالب به أنصار هذه المدرسة من وجوب التعويل على مدى ما يتوافر فقط لدى الجاني من المسؤولية الشخصية المؤسسة على حرية الاختيار وذلك في المرحلة القضائية .
ج ) في فكر المدرسة الوضعية الإيطالية : ( الردع الخاص فحسب ) :
ومن أبرز زعماء هذه المدرسة : سيزار لومبرزرو ( 1835 ـ 1909 م ) واتريكو فيري ( 1856 ـ 1829 ) روفائيلي جاروفالو ( 1852 ـ 1934 ) ، وكانت نقطة البداية في فكر هذه المدرسة أن الجريمة حقيقة إنسانية اجتماعية ، ولذا يجب التريز على شخصية الجاني تركيزا كليا دون النظر إلى المسؤولية الأدبية ، وأن رد الفعل الاجتماعي ينبغي أن ينحصر في التدابير الاحترازية دون العقوبات التقليدية .
وبناء على ذلك فيجب أن يهدف تنفيذ التدابير الاحترازية الممثلة للجزاء الجنائي ، إلى مجابهة العوامل التي أدت إلى وقوع الجريمة ، سواء ما كان منها متعلقا بشخص الجاني أو بعوامل أخرى خارجية .
لذا فإن الهدف الذي ينبغي أن تعمل المؤسسات العقابية على تحقيقه ، يتمثل في استئصال هذه العوامل بالعلاج أو التهذيب ، او الاستئصال كليا إذا لزم الأمر ، ولم يكن العلاج مجد .
إلا أنه في نهاية المرحلة التي ظهرت فيها المدرسة الوضعية الإيطالية وقبل حلول القرن العشرين نشطت حركات الاصلاح العقابي ، وأنشئت عدة إصلاحيات للمسجونين على سبيل المثال إصلاحية في نييورك أنشأها شخص يدعى ( بروكواي ) وحاول أن يطبق عليها بعض الأفكار الإصلاحية وفق امجموعة مبادئ من أهمها :
*
أن المجرم شخص يقبل التقويم والإصلاح
*
أن التقويم والإصلاح هو حق الفرد وواجب المجتمع .
*
أن تعويد المجرم على التعاون مع عامل هام من عوامل تحقيق الإصلاح
*
أن هذا التعاون لا يتأتى إلا إذا كان من حق إدارة السجن أن تحكم في مدة العقوبة إيجابا أو سلبا حسب مدى تجاوب وحسن سلوك المحكوم عليه داخل السجن .
د ) في فكر المدرسة التوفيقية : ( الإصلاح أولا والردع ثانيا ) :
قامت هذه المدرسة في أوائل القرن العشرين بزعامة الفقهاء : تون ليست الألماني ، وهامل الهولندي ، وبرتز البلجيكي .
وحاولت أن توفق بين الاتجاه التقليدي والاتجاه الوضعي ، فحافظت من الاتجاه التقليدي على مبدأ المسؤولية الجنائية الشخصية المؤسسة على حرية الاختيار ، وأخذت من الاتجاه الوضعي فكرة التدابير الاحترازية ، والتركيز على شخصية الجاني . فجمعت بين العقوبة بمعناها التقليدي البحت بحكم طبيعتهم ، وبين التدابير الاحترازية لتوقيعها على الشواذ ، والمعتادين على الإجرام ، والأحداث.
وأوضح أنصار هذا الاتجاه التوفيقي أن العقوبة لا تزال هي الوسيلة الفعالة للردع العام ، لإعادة التوازن إلى الشعور الجماعي الذي تأذى بالجريمة . كما أكدوا أهمية القضاء على الخطورة الإجرامية في شخصية الجاني ، وضرورة تفريد الجزاء في المراحل التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وفق ما أوضحه ريمون سالي ـ صاحب نظرية تفريد العقاب ـ حتى تحقق العقوبة أغراضها المتعددة والمتمثلة في الردع والتطهير وإصلاح الجاني ، وتحقق التدابير أغراضها المتمثلة في العلاج والتهذيب ثم التأهيل .
ويقصر سالي نظريته على مقترفي الجرائم الطبيعية أو الحقيقية ( كالقتل والضرب والجرح والسرقة ) أما الجرائم المصطنعة أي التي تصطنعها الدولة بالتجريم القانوني تبعا للتطور الحضاري ( كالجرائم الاقتصادية والمالية ) فيخرجها سالي من نطاق نظريته ويرى أنها لا تحتاج إلى تفريد تنفيذي .
وعلى الرغم من عناية هذا الاتجاه التوفيقي بالهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي على النحو المشار إليه ، والعمل على الأخذ بأساليب العلاج والـاهيل في السجون في المرحلة التنفيذية ، إلا أنه عنى إلى جانب ذلك بالردع العام الذي سعى إلى تحقيقه بالعقوبات التقليدية وأهمها عقوبة الحبس .
هـ ) في فكر مدرسة الدفاع الاجتماعي ( العلاج وإعادة التأهيل ) :
أستمرت النظرة إلى التجريم والعقاب في مسارها التطوري حتى دخلت مرحلة جديدة سميت بمرحلة السياسة الجنائية الاجتماعية وقد بدأت هذه المرحلة مع بداية ظهور اتجاه الدفاع الاجتماعي للفقيه ـ جراماتيكا ـ سنة 1945 وتأسيس مركز الدفاع الاجتماعي في نفس السنة .
وفي سنة 1954 أصدر المستشار الفرنسي مارك أنسل كتابه في هذا الصدد تحت عنوان ( الدفاع الاجتماعي الجديد ) حاول فيه أن يضع صياغة جديدة للدفاع الاجتماعي ، وبذلك أضبح للدفاع الاجتماعي اتجاهان ، الأول اتجاه جراماتيكا ، والثاني اتجاه مارك أنسل .
ـ اتجاه جراماتيكا : ( الفرد هو كل شي ء ) :
أسس جراماتيكا افكاره على حقيقة الطبيعة الانسانية ، من ناحية ، وطبيعة علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من ناحية أخرى .
فمن ناحية الطبيعة الانسانية يرى جراماتيكا أن الانسان كائن مشحون بالأنانية المطلقة ، وهو يود لواستطاع أن يضرب صفحا عن المجتمع ، كما يتمنى أن يمارس من الأفعال ما يشاء ويهوى ، وكل هذه الرغبات لا يقف أمامها سوى المشاعر الانسانية الناتجة عن تأثير الدين والتربية والمبادئ والمثل والمعتقدات الاجتماعية وغيرها .
ومن الناحية الثانية يرى جراماتيكا أنه يجب أن تخضع الدولة لمقتضيات احترام الحقوق الاساسية للإنسان والعمل على حمايتها .
ويطبق جراماتيكا كل هذه الأفكار على مقترفي الجرائم ، ويرى أن الجاني هو مركز الثقل وليست الحماية الموضوعية للمصالح ، وهذا يتطلب في نظره أن يكون مضمون التنفيذ الجنائي ( اللاجتماعي في نطره ) هو العمل على تهذيب القادرين على العودة إلى المجتمع ، وعلاج غير القادرين على ذلك وتأهيلهم للعودة أعضاء صالحين . ولذا لا يعترف جراماتيكا بالجزاء الجنائي .
ـ اتجاه مارك آنسل ( الإصلاح وأعادة التوافق الاجتماعي ) :
لم يسلم آنسل بما ذهب إليه جراماتيكا من وجوب إلغاء نظام الجزاء الجنائي ، وجعل الفرد هو مركز الثقل فحسب ، بل تمسك آنسل بالجزاء الجنائي ( عقوبات وتدابير ) ، وأكد أن هذه العقوبة يتعين أن يكون إصلاحيا ، فتحل فكرة المعاملة محل فكرة العقوبة التطهيرية ، بهدف إعادة التوافق الاجتماعي ، وينظر آنسل إلى أن هذا الهدف يعتبر حقا للمجرم ، يقابله واجب الدولة في أن تتدبر السياسة الجنائية والعقابية التي تكفل تحقيق هذا الهدف مع العناية بالخطورة الإجرامية للقضاء عليها .
وبناء على ذلك أمكن القول أن الجزاء الجنائي وبالتالي المعاملة العقابية في السجون ، يتعين أن تركز بالدرجة الأولى على العناية بالكشف عن الخطورة الإجرامية لدى المحكوم عليه والعمل على القضاء عليها ، بالعلاج ، ثم التأهيل لإعادة التوافق الاجتماعي . ويراعي آنسل في ذلك عشرة مبادئ أهمها :
*
أن تهدف المعاملة في السجن إلى تنمية الشعور بالمسؤولية لدى المحكوم عليه ، قبل نفسه وإزاء المجتمع ، وهذه التنمية من شأنها أن تجعله ينظر إلى الانحراف الإجرامي على أنه سلوك غير جدير به ، لعدم أتفاقه مع مسؤولياته ومع كرامته .
*
أن تهدف المعاملة في السجن إلى الحفاظ على ما يكون لدى المحكوم عليه من مبادئ وقيم صالحة ، وقدرات وأمكانيات بدنية وذهنية ، مع العمل على تنميتها لأنها هامة للغاية في سبيل تمكينه من العودة إلى المجتمع والاندماج فيه بعد الإفراج عنه .
*
أن يراعى في هذه المعاملة الإقلال ـ قدرالإمكان ـ من الآثار الضارة المرتبطة بمنع الحرية ، باعتبار أن حياة المحكوم عليه تعد حياة غير طبيعية ، يخشى منها أن تسيء إلى صحته البدنية أو النفسية أو العقلية ، فيفقد بالتالي القدرات اللازمة لتمكينه من إعادة التوافق الاجتماعي .
*
أن تكون هناك خطة من جانب الدولة لرعاية المفرج عنهم ومساعدتهم على العودة إلى المجتمع صالحين .
ثانيا : مفهوم السجن في الإسلام ومضمون التنفيذ العقابي :
تهدف العقوبات في النظام الجنائي الإسلامي إلى حماية المصالح الأساسية المعتبرة ، عن طريق زجر الجتني وردع غيره . وتحقيق العدالةالمطلقة بالحدود والقصاص ، والعدالة النسبية بالتعازير التي تترك لولي الأمر ، كما تهدف العقوبات المقدرة بوجه خاص إلى تحقيق هذف لا نظير له في أي تشريع جنائي وضعي ، وهو شفاء غيظ المجنى عليه أو ذويه ، فالبقصاص وتمكين المجنى عليه في جرائم الدم أو عاقلته في جرائم القتل من الجاني ، يتم شفاء الصدور ونزع الحقد والغيظ منها بما لا يدع أدنى مجال للحقد او الرغبة في الانتقام أوالثأر ، حتى ولو تنازل المجنى عليه أوعاقلته عن الحق الخاص في القصاص مقابل الدية أم بدونها .

وقد عرف الإسلام سلب الحرية في صورة واحدة وهو الحبس أو السجن بمعنى منع الحرية ، بقصد تقييد الشخص ومنعه من التصرف بنفسه كما أشرنا ، وكان على نوعين :
ـ حبس كعقوبة
ـ وحبس استطهار أي على ذمة قضية معينة على سبيل الاحتياط
والحبس كعقوبة يوقع على سبيل التعزير على المعاصي أو في حالات درء الحدود بالشبهات أو استيفاء للحق العام عند التنازل عن الحق الخاص .
والحبس في الشريعة الإسلامية مؤسس على وقوعه في عهد النبي صلى اله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، على الرغم من عدم تخصيص مكان معين للسجن في عهديهما ، أما في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث زاد عدد الرعية ، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية ، رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرورة إعداد مكان لحبس المجرمين ، الذين يخرقون أوامر الإسلام بالمعاصي وعدمتنفيذ الواجبات الإسلامية ، فابتاع في مكة المكرمة دارا من صفوان بن أمية وجعلها محبسا ، وثبت عن عمر ـ كما يروى ـ أنه سجن الحطيئة على الهجو ، وصبيغا التميمي عن سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن .
وكذلك سجن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضابي بن الحارث ـ من لصوص بني تميم وفتاكهم ـ حتى مات في السجن ، كما ثبت أن عليا كرم الله وجهه قد بنى سجنا في الكوفة وأوقع عقوبة السجن .
وكان علي رضي الله عنه أول من لفت الأنظار في الإسلام إلى وجوب العناية بالمسجونين ثم فعل ذلط معاوية في الشام ، ثم توالت هذه العناية بعد ذلك من جانب غيرهم من الخلفاء التابعين .
هذا وقد وضع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، نظاما دقيقا للسجن ، يحقق للمسجون كرامته وآدميته ، وقد وردت الإشارة إلى هذا النظام في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف ، حيث جاء به ما يلي :
حدثنا بعض شيوخنا عن جعفر بن يرقان قال :
كتب إلينا عمر بن عبد العزيز : لا تدعن في سجونكم أحدا من المسلمين في وثاق ، لا يستطيع أن يصلي قائما ، ولا يبين في قيد إلا رجل مطلوب ، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم ، في طعامهم وأدمهم ، فمر بتقدير ما يقوتهم في طعامهم وصير ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم .... وول ذلك رجلا من أهل الخير والصلاح ... وليس كل من في السجن يحتاج إلى أن يجرى عليه ، وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء ، وفي الصيف قميص وإزار ويجري على النساء مثل ذلك ، وكسوتهم في الشتاء قميص ومقنعة وكساء ، وفي الصيف قميص ومقنعة وإزار ، وأغنهم عن الخروج في السلاسل ، يتصدق عليهم الناس ، فإن هذا عظيم أن يكون .... وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في أيديهم ، فكيف ينبغي أن يفعل ذلك في أهل الإسلام .... إن ابن آدم لم يعر من الذنوب ، فتفقد أمرهم ، ومر بالإجراء عليهم مثل ما فسرت لك ...... "
فالهدف الإصلاحي موجود وثابت في المعاملة العقابية في السجون في مختلف العصور الإسلامية وإن اختلف مداه .
ثالثا : متطلبات الهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي في المرحلة التنفيذية :
انتهينا فيما تقدم إلى الوقوف على ما وصل إليه تطور الفكر الجنائي في شأن تطوير أهداف الجزاء ، وبالتالي تطوير وظيفة السجن تبعا لذلك .
وليس فيما عرضناه ما يتعارض مع النظام الجنائي الإسلامي ، حيث يتعين أن تحقق عقوبة الحبس هدفها الإصلاحي ، حتى يخرج المحكوم عليه إلى المجتمع وقد تخلص تماما من الخطورة الإجرامية التي دفعته إلى الإجرام ، واستعد للاندماج في المجتمع من جديد ، عضوا مسؤولا صالحا يستنكر كل أنواع الانحراف الإجرامي .
والنظام الجنائي الإسلامي سلسلة متصلة من حلقات ثلاث : حلقة تمثل المرحلة التشريعية ، وهذه تنحصر في نطاق الجرائم التعزيرية التي يتصور أن تلعب السلطة التشريعية الإسلامية دورها في شأنها ، دون جرئم الحدود والقصاص ، الت يلا تملك هذه السالطة تعديل النصوص الشرعية الواردة بشأنها ، وإن كان بإمكانها إعادة صياغتها في شكل قاوعد تنظيمية ويكون عملها عندئذ مجرد عمل تقريري كاشف لا منشئ ، أما الحلقة الثانية فهي الحلقة القضائية التي يعمل القاضي فيها على اختيار الجزاء الملائم في الإطار الشرعي ، وأما الحلقة الثالثة فهي الحلقة التنفيذية التي تعمل فيها السلطات القائمة على تنفيذ الجزاء الجنائي على تنفيذ ما يرد في الأحكام القضائية ، وتحقيق الأهداف المبتغاة من وراء الحكم بجزاء معين ، إن لم يكن بدنيا أو استئصاليا .
ودور المؤسسات العقابية إذن يتركز في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية أساسا ، وإن كانت هناك سجون لتحفظ على المتهمين انتظارا لمحاكمتهم ، وعلى كل حال يجيب الحفاظ على الحقوق الإنسانية في الحالتين .
ومن المعلوم في نطاق النظام الجنائي الإسلامي أن عقوبة الحبس يحكم بها في الحالات التالية :
ـ ارتكاب جريمة تعزيرية خارج نطاق الحدود والقصاص .
ـ الاتهام في جريمة من جرائم الحدود مع درء الحد بالشبهة حيث يجوز للقاضي أن يوقع عقوبة الحبس على أساس التعزير .
ـ الإدانة في جريمة من جرائم القصاص عند تنازل المجنى عليه أو أولياء الدم عن الحق الخاص في مقابل الدية أو بدونها حيث قد تستوفي الدولة الحق العام بتوقيع عقوبة الحبس .
وفي جميع هذه الأحوال لا تحقق عقوبة الحبس إصلاح الجاني إذا ما نفذت بطريقة سلبية ، بمجرد منع حركة المحكوم عليه ، ذلك أن الخطورة الإجرامية قد تكون على عالية جدا ، بالنسبة للتهم في جريمة من جرائم الحدود عند درء الحد بالشبهة وحبسه تعزيرا ، وبالنسبة للمحكوم عليه بالإدانة في جريمة قتل أو جرح عمد ، إذا ما نتازل أولياء الدم عن القصاص من الجاني مقابل الدية أو بدونها أو نتازل صاحبالحق الخاص ، واستوفت الدولة حقها العام بتوقيع عقوبة الحبس .
من أجل ذلك وبناء على على مأ أكدته الدراسات العلمية المختلفة لطوائف المجرمين ، يتعين أن يصاحب عقوبة الحبس الطويل المدة بوجه خاص برنامج علمي يتفق مع سمات شخصية المحكوم عليه من أجل علاجه إذا كان يحتاج إلى علاج ، أو تربيته وتهذيبه ، ثم تأهيله لإعادته بعد ذلك إلى المجتمع صالحا وإيجابيا .

أولا : متطلبات العلاج و الإصلاح :
يتطلب العلاج والإصلاح لشخصية السجين القيام بإجرائين هامين ، هما : فحص شخصيته فحصا علميا ، ثم تصنيفه على ضوء نتائج هذه الفحص :
1 )
فحص شخصية السجين :
يقصد بفحص شخصية السجين دراسة شخصيته من مختلف النواحي البيولوجية والنفسية والاجتماعية ، للكشف عن سمات هذه هذه الشخصية وتحديد العوامل التي دفعت بصاحبها إلى اقتراف الجريمة .
ويقوم بهذأ الفحص جهاز من المتخصصين ، وغالبا ما يتم الاعتماد على البفحص السابق على الحكم في الدول التي تنظم هذا الفحص تشريعيا ، حيث يختار القاضي الجزاء الجنائي بناء على تحديد درجة الخطورة الإجرامية لدى الجاني ، واستنادا إلى ملف الشخصية الذي يوجد إلى جانب الملف القانوني للقضية ، ويضم نتائج فحص شخصية الجاني من مختلف النواحي وتحديد سماته .
وتحدد شخصية المجرم ـ حسب الدراسات التي تمت على الصعيد العالمي ، من أجل تصنيف المجرمين إلى فئات ـ بالنظر إلى العوامل المختلفة التي تدفع بهم إلى الجريمة ، وهذ العوامل أما عضوية موروثة أو طارئة ، ويكشف عنها الفحص البيولوجي المشار إليه ، أو نفسية أو عقلية وظيفية ، ويكشف عنها الفحص النفسي ، أو اجتماعية ويكشف عنها الفحص الاجتماعي ، وتتوزع هذه الفئات على النحو التالي :
ـ فالمجرم ضعيف العقل ( المعتوه أو الأبله أو الغبي ) ، والمجرم الذهاني ( لأسباب عضوية ) جميعهم يجرمون بسبب وجود اضطراب عضوي موروث أو طارئ ، بالإضافة إلى عوامل أخرى مساعدة .
ـ والمجرم العصابي ( المأثوم أو عدو السلطة المقهور ) ، والمجرم الذهاني ( لأسباب نفسية ) ، والمجرم السيكوباتي : جميعهم يجرمون بسبب وجود أضطراب نفسي كبير في صحتهم النفسية :
فالمجرم العصابي المأثوم : لا تخيفه العقوبة ولا يخيفه الزجر لأنه هو الذي يبحث عن العقاب بنفسه لنفسه للتكفير عن شعوره بالذنب .
والمجرم عدو السلطة يمقت كل أنواع السلطة في العائلة وفي المدرسة وفي المجتمع ويكون لديه عدوان مكبوت ، يسهل ظهوره في أية فرصة غذا ما وجد بعض العوامل المساعدة ، وأغلب جرائم هذا النوع من المجرمين من نوع الإهمال أو الاختلاس .
والمجرم المقهور يسبب له الاضطراب النفسي نوعا من من الإجبار والقهر ، مثاله مرتكب السرقات القهرية ، كالعانس الي تسرق رغما عنها ملابس الأطفال وهي ثرية أو في غير حاجة مادية إلى ما تسرقه .
ـ أما المجرم الذهاني ( لأسباب نفسية ) ، فيصاب " بالفصام ) الذي تصاحبه هلوسة ، ويكون الشخص في حالة تبلد في أعلب الأوقات ويعيش بعيدا عن الواقع ، وهذا الاضطراب يؤدي بالشخص إلى القيام بعمل عنيف مفاجئ دون أي مبرر ، كأن يضرب أو يقتل ، ثم يعود إلى هلوسته ويهاجم أي شخص قريب منه ، وقد يرتكب جرائم الحريق أو التحطيم ا, لاعتداء الجنسي أو التخريب ، وقد يصاب بمرض نفسي آخر يسمى ( البارانويا ) وهو يختلف عن الفصام من زاوية خلوه من الهلوسة ، ويبدو في أغلب الأحيان كما لو كان سويا ، غير أنه يهذي كثيرا ، وجرائمه تتم غالبا بناء على تفكير سابق ، ومحورها معتقدات خاصة بالاضطهاد أو العظمة أو الغيرة ، وقد تصل إلى القتل بتأثير أي من هذه المعتقدات ، أو لانتزاع حق مزعوم .
ـ وأما المجرم السيكوباتي : فاضطراب شخصيته ناشىء عن قصور في النمو النفسي للأنا والأنا العليا وغالبا ما يلازم الفرد منذ نشأته الأولى ، فيعجز عن التبصر واكتساب الخبرات والنعارف والعلم . ويؤدي هذا الاضطراب إلى الاهتمام البالغ بإشباع اللذات العاجلة بصورة اندفاعية ، دون أي اعتبار لما قد يترتب على سلوكه من آثار ضارة ، ودون أي اكتراث لما سيؤدي إليه سلوكه من هدم صحته وفقد وظيفته وعلاقاته الأسرية أو الاجتماعية ، أو لما سيؤدي إليه سلوكه من عقاب .
ومن أبرز ملامح المجرم السيكوباتي أنه انفعالي متقلب لأسباب تافهة ، وقد تؤدي هذه الأسباب التافهة إلى انفعال شديد يترتب عليه اقترافه جريمة جسيمة .
كما أن من أبرز ملامحه ، أنه لا يتأثر بوسائل العقاب الهادفة إلى الردع والزجر التقليدي .
ـ المجرم لأساب اجتماعية : وهو إما :
"
فاسد القيم " لنشأته في بيئة منحلة ،
أو " المتأثر بسلطان البيئة " لنشأته تحت تأثير ضغط التقاليد والعادات المركز على الثأر ووجوب الانتقام للعرض أو للشرف أو الكرامة .
أو " المجرم العرضي أو الموقفي " الذي ينحرف لظروف طارئة عارضة ، ومواقف ضاغطة لضعف الإرادة والمقاومة لديه ، فيقترف الاختلاس لحاجة ، أو يقع في جرائم الإهمال لعدم تمكنه من شحذ ملكتي الانتباه والإرادة بالقدر اللازم للتحكم في السلوك دون الوقوع في الخطأ .
بناء على كل ما تقدم ، يمكن القول بأن تحديد الفئة التي ينتمي إليها السجين من بين الفئات السابقة ، وكذا تحديد الأسباب العضوية أو النفسية أو الاجتماعية الت يأدت بالشخص إلى ارتكاب الجريمة أم هام للغاية ، وهو يتم بإجرا ءالفحص العلمي لشخصية المحكوم عليه ، ويفيد ملف الشخصية ـ المعد كما ذكرنا ـ في مرحلة القضية الجنائية كثيرا في توفير الجهد في هذا الخصوص .
فغذا كان الخلل والإضطراب راجعا إلى أسباب عضوية أو نفسية ، كان العلاج أمرا لازما ، وقد يتمثل في علاج ورم في المخ أو خلل ف يالجهاز العصبي ، أوعلاج تسمم كحولي ناتج عن شرب السكرات ، أو علاج بعض الغدد ، كما قد يتمثل في علاج المرض النفسي وإزالة التوتر لدى المحكوم عليه . أما إذا كان الخلل راجعا إلى أسباب اجتماعية فإن العلاج قد يتمثل في تنمية الحاسة الأخلاقية الواقية من الانحراف ، عن طريق بث مجموعة من المبادئ والقيم في نفس المحكوم عليه ، كما قد يتمثل في التغيير الجذري في الأسلوب الحضاري للحياة ، للقضاء على تأثير سلطان البيئة للإنتقام للشرف أو للعرض أو الثأر .
أما المجرم العرضي فإنه سريع الندم على ما يقع منه من جرائم عرضية ، لذا يكون علاجه ميسرا ، حيث يكفي بالنسبة له تنمية القدرة على تحمل الاحباط ، وتعويدهم على الأنماط السلوكية السوية رغم قسوة المواقف المحيطة بهم وهؤلاء بوجه خاص اتجهت التشريعات الحديثة إلى تجنيبهم دخول السجن بقدر الإمكان ، حتى لا يتعرضوا لأية مؤثرات سلبية ، وغالبا ما يستبدل السجن في المرحلة القضائية بالغرامة أو الوضع تحت الاختبار القضائي أو المعاملة بنظام وقف النطق بالعقوبة أو بنظام وقف تنفيذ عقوبة الحبس .
فكيف يتسنى إذن زضع برنامج علاجي من دون الوقوف على نمط شخصية المحكوم عليه ، والفئة التي ينتمي إليها من فئات المجرمين الموضح بيانها أعلاه .
إن أي قدر من الحبس مهما طالت مدته لن يكون له أي اثر إزاء حالة سجين مريض بمرض عضوي وظيفي أو نفسي أو اجتماعي على النحو المشار إليه .
وبدون وضع مثل هذا البرنامج لكل سجين يودع السجن لمدة معينة ـ طويلة نسبيا ـ فإنه سيخرج حتما بخطورته الإجرامية ليرتكب الجريمة مر’ أخرى ويعود إلى السجن من جديد .

ثانيا : تصنيف المحكوم عليهم على ضوء نتائج الفحص :
يقصد بتصنيف المحكوم عليهم في السجون ، توزيعهم إلى فئات متماثلة بقدر الإمكان ، حتى يسهل تطبيق برامج العلاج والتهذيب والتأهيل عليهم ، في شكل مجموعات بدلا من ضياع الجهود التي تناسب عدة حالات مع حالة واحدة وتكرارها بلا مبرر ، وفي ذلك توفير للجهد والنفقة والوقت .
وقد يتم هذا التصنيف بهدف آخر تقتضيه طبيعة الهدف المراد تحقيقه من وراء العلاج أو التهذيب ، إذ لا يمكن تطبيق البرامج المطلوبة إلا مع وقاية المسجونين من الآثار السلبية التي ظهرت في العهود الماضية من جراء وضع مختلف المسجونين في مكان واحد دون أدنى فصل بينهم ، وكان من شأن هذه الآثار السلبية فساد بعض المسجونين المبتدئين من ذوي الخطورة الإجرامية الضئيلة ، بإضاعة ما لديهم من قدرات وإمكانات بدنية وذهنية بهدم المبادئ والقيم التي كانوا يحتفظون بها قبل تورطهم في الجريمة ودخولهم السجن ، بل وابعد من ذلك بإغرائهم بواسطة الخطرين ومحترفي الإجرام من زملائهم المسجونين معهم للإنضمام غلأى العصابات الإجرامية بعد مغادرتهم السجن .
لذا ، وبعد ما أثبته العديد من الدراسات العلمية عن حقيقة هذه الآثار السلبية للاختلاط في السجن والافتقارإلى التنظيم والتصنيف ، اتجهت الأنظار إلى أهمية التصنيف والفصل بين مختلف المسجونين ، وتوزيعهم إلى فئات متماثلة : إما من زاوية ( السن ) بفصل الأحداث عن البالغين ، أو ( الجنس ) بفصل الرجال عن النساء ، أو ( درجة الخطورة الإجرامية ) بفصل المعتادين ومحترفي الإجرام ومقترفي الجرائم الجسيمة عن المبتدئين من ذوي الخطورة المحدودة أو الضئيلة ، أو ( طبيعة المرض العضوي أو النفسي أو الاجتماعي ) .
ولا ينبغي أن ينظر إلى التصنيف الذي يتم ابتداء على أنه هو التصنيف الحصيح ، بل يتعين مراقبة سلوك السجين ضمن الفئة التي صنف معها ، للتأكد من حصة تصنيفه وملائمة خطة أو يرنامج العلاج المعد على اسس علمية لعلاج أو تهذيب هذه الفئة .
وبناء على ذلك اتجه رأي البعض إلى القول بتخصيص السجون ، يحيث يفرد سجن لكل فئة ، ولكن هذا التخصيص ـ في نظرنا ـ لا نكون في حاجة إليه ، إلا غذا كان عدد المسجونين كبيرا ، وفئاتهم متعددة ، أما غذا كان العدد محدودا ، فيمكن إجراء التصنيف داخل المؤسسة العقابية الواحدة ، بتخصيص مكان مستقل لكل فئة .
متطلبات التأهيل للعودة إلى المجتمع :
إن العمل على تأهيل السجين للعودة إلى المدتمع صالحا ، يعتبر استمرارا لبرنامج العلاج أو التهذيب الذي طبق عليه أثناء فترة تنفيذ عقوبة الحبس ، ولذا فلا يمكن أن يشرع في هذا هذا التأهيل دون سبق تنفيذ متطلبات العلاج أو التهذيب .
ويهدف برنامج المعاملة العقابية العلاجية ـ في الأصل ـ إلى الحفاظ أثناء تنفيذه على ما لدى السجين من مواهب وإمكانات وقدرات بدنية وذهنية ، باعتبارها الوسائل اللازمة لتمكينه من الاندماج في المجتمع من جديد بعد الإفراج عنه ، ولا يكفي في الواقع مجرد الحفاظ عليها ـ بل يجب العمل على تثمينها ، وتعويد السجين على كيفية مجابهة المواقف الصعبة في الحياة ، خاصة وأن الفترة التي تلي الإفراج عنه ، غالبا ما يصاحبها بعض التوتر التفسي من جانبه ، خشية نظرة المجتمع إليه .
وتنمية المواهب والقدرات البدنية والذهنية المشار إليها ، أمر ممكن ، ووسائل هذه التنمية متعددة وأهمها :
*
التأهيل المهني : وهو يحقق فوائد شتى للسجين منها التعود على النظام والالتزام ، والقضاء على السأم أو الشعور بالتفاهة الذ ي قد ينتج من الفراغ ، وشغل تفكير السجين بأمور مفيدة له ، بما لا يتيح له الفرصة للتفكير في الإجرام أو السغب ، وفوق كل ذلك تأهيل السجين للكسب الشريف من المهنة التي يتعلمها ويتقنها كل ذلك في السجن، فضلا عما يكسبه من هذا التأهيل المهني من قيم وعادات جديدة ، كاعتماد على النفس والثقة بها والتعاون مع الغير ، واكتساب اتجاهات إيجابية جديدة نحو العمل والزلاء والرؤساء وتكوين علاقات سليمة معهم .
*
التهذيب والتعليم : قد يكون التهذيب ضمن برنامج العلاج في المرحلة السابقة على الـتأهيل ، خاصة بالنسبة للسجين الذي ارتكب جريمته تحت تأثير عوامل اجتماعية كما أشرنا .
ولكن التهذيب أمر لا زم وبدرجات متفاوتة بالنسبة لمختلف أنماط المسجونين في مرحلة ما قبل ألإفراج ، وهو إما أن يكون دينيا يتزويد السجين بالثقافة الدينية اللازمة ، بشرط سلامة الأساليب المستخدمة في هذا الصدد ، حتى لا تكون منفرة من هذا النوع من الثقافة ، فضلا عن السماح للسجناء بإقاة الندوات الدينينة وتمكينهم من أداء الفروض في أوقاتها ، مع تزويد السجن بمكتبة دينية مناسبة ، كما قد يكون هذا التهذيب أخلاقيا بإقناع السجين بالقيم الاجتماعية السليمة والمبادئ السامية والمثل ، وهي في الدولة الإسلامية وثيقة الصالة بالثقافة الدينية ، لأنها مؤسسة عليها ويتعين أن يتفق معها .
أما التعليم فيجب على إدارة السجن أن تشجع المسجونين على الاطلاع المستمر والتعليم ، وأن تيسر لهم الاستذكار وخاصة لمن لديهم الرغبة في مواصلة الدراسة ، مع السماح لهم بتأدية الامتحانات في داخل السجن ، كما يجب على إدارة السجن أن تعنى عناية تمة بمكتبة السجن وأن توفر فيها الكتب العلمية إذا لزم الأمر ، وأن تسمح للسجين ـ إذا أراد ـ أن يحضر الكتب العلمية التي يرغب فيها وكذا المجلات الدورية على نفقته وكل ذلك تحت إشراف ورقابة إذارة السجن ، حتى لا يستغل هذا الجانب لتزويد المسجونين بأفكار هدامة سلبية .
ويرتبط بمتكلبات التأهيل للعودة إلى المجتمع ، وجوب العمل على الحفاظ على اسرة السجين من الانهيار أثناء حياته في السجن ـ وهذا واجب يقع على عاتق الدولة ـ وكذلك وجوب التخطيط لرعاية المسجون عقب الإفراج عنه ، ومساعدته في تخطي الصعوبات التي سيصادفها غالبا من جانب المجتمع ، إلى أن يلحق بعمل شريف وبنفس راضية وروح معنوية عالية .
وقبل أن نختم حديثنا لا بأس بكلمة وجيزة عن اهتمام المؤتمرات الدولية برعاية المسجونين :
اهتمت مؤتمرات دولية عديدة بقواعد معاملة المسجونين وكان أن سنت هذه المؤتمرات الدولية الحد الأدنى لمعاملتهم ، التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1955 م ، بعد أن أوصت بها اللجنة الدولية للقانون الجنائي والسجون سنة 1951م .
وفي سنة 1953 م ، اقرت حلقة دراسات الشرق الأوسط لمكافحة الجريمة ومعاملة المسجونين هذه القواعد ، ولكنها قالت أن هذه القواعد لا يمكن الأخذ بها في كل زمان ومكان ، لتباين الظروف والأوضاع القانونية بين الدول ، وأن على كل دولة أن تأخذ بما يتفق مع ظروفها وأوضاعها ، مع ملاحظة أن تلك القواعد تمثل الحد الأدنى الذي يجب أن تكون عليه المعاملة .
أما عن هذه القواعد فإنها تتضمن ـ في الجزء الأول منها عدة مبادئ عادو تكفل معاملة موحدة لمختلف المسجونين دون تمييز عنصري أو تحيز على اساس من اللغة أو الدين أو الجنسية أو العقيدة السياسية أو الطبقات الاجتماعية ، مع ضرورة احترام العقائد الدينية والمبادئ الأخلاقية ، كما تضمنت مبادئ التصنيف داخل السجن ، ووجوب الفصل بين المحبوسين لتنفيذ أحكام جنائية والمحبوسين في قضايا مدنية ، وبين المحكوم عليهم في جرائم عادية والمحكوم عليهمفي جرئم سياسية .
كما نتاولت مباني السجون وتصميمها وتنظيم الحياة فيها ، والنشاطات التي يتعين ممارستها فيها ، والخدمات الطبية للمسجونين ونظم معاملتهم ، واتصالهم بالعلم الخارجي .
أما الجزء الاثني من هذه القواعد فقد تناول العقوبة وفلسفتها ، ومجتمع السجن ،وضرورة العمل على تقليل الفارق بين الحياة خارج السجن وداخله ، بالقدر الذ ي يحقق أغراض المعانلة العقابية ، ويحاقظ في ذات الوقت على شعور السجين بالمسؤولية واحترام ذاته ، بعيدا عن العنف والإكراه ، كما اشارت إلى أهمية تفريد المعاملة العقابية في السجن ، بما يتطلبه ذلك من تصنيفهم إلى فئات متجانسة ، وعلاجهم إذا اقتضى الأمر .
ومن أبرز الجهود العربية في هذا الصدد ، ما بذل في مؤتمر خبراء الشؤون الاجتماعية العرب ( في دورته الثامنة سنة 1964 م ) ، حيث توصل إلى عدة توصيات هامة تتعلق برعاية المسجونين وأسرهم خاصة الرعاية اللاحقة ، والرعاية الاجتماعية داخل المؤسسات العقابية .

No comments:

Post a Comment