Thursday, February 28, 2008

العدالة الجنائية بين التثبيت والتحديث

العدالة الجنائية بين التثبيت والتحديث

الاستاذ يوسف وهابي ـ محام بهيئة المحامين بالجديدة

تمهيد : ان الحديث عن العدالة الجنائية هو حديث ذو شجون، بل هو حديث كل العصور، ومازلت البشرية منذ وجدت تنشد العدالة الجنائية وتسعى نحو تحقيقها، وقد افرزت هذا السعي تراثا ضخما غنيا ممتدا في الزمان والمكان، بمدارسه الفكرية ونظرياته الفقهية وعلومه الجنائية وتشريعاته التطبيقية، فالفكرة تحمل على ظهرها ماضيا ثقيلا حافلا وتعيش حاضرا متوثبا وتنتظر مستقبلا متحديا.

فنظرة الناس للعدالة الجنائية في الالفية الثالثة ليست هي حتما نظرتهم إليها في العهود البدائية أو العصور الوسطى.

صحيح ان الفكر الجنائي تطور وارتقى وكافحت الشعوب والمجتمعات وادت الثمن غاليا حتى اصبح للعدالة الجناية مبادئ خالدة يعز على الانسانية ان تفرط فيها أو تتنازل عنها، ولكن في نفس الوقت كشفت السنون عيوبا وطرحت الصراعات الاجتماعية اشكالا جديدة من التحديات والتطورات المتلاحقة، واصبح البحث عن الحلول يفرض نفسه على نحو مستقر في افق تفعيل العدالة الجنائية على جميع المستويات بعيدا عن الارتباك والجمود.

لاشك اننا نعيش اليوم ثورة تكنولوجية وعلمية مهولة تكتسح كل اصناف العلوم، بما فيها العلوم القانونية ولا شك ايضا ان المجتمعات الانسانية تعيش تقلبات كبرى وتغييرات ملحوظة في قيامها واعرافها ومعتقداتها جعلت العلاقات الاجتماعية تبعا لذلك اكثر تعقيدا واكثر تمردا لذلك من الطبيعي ان ينظر إلى العدالة الجنائية انطلاقا من هذا الواقع المتحرك في اطار فلسفة واضحة المعالم محددة الاهداف.

وهذا يعني اعادة التفكير في مجموعة من المفاهيم والاليات التي تحكم العدالة الجنائية انطلاقا من البحث في موضوع الجريمة تعريفا وطبيعة وضبط اشكالها والوسائل الكفيلة بمكافحتها والتطرق إلى موضوع العقوبة اغراضا وخصائصا والتركيز على البدائل الممكنة والناجعة اضافة إلى ايجاد طرق سالكة لتوفير العدالة الجنائية لجميع المواطنين من خلال ضمان المحاكمات العادلة بحثا وتحقيقا وحكما.

وقد يتساءل البعض هل العدالة الجنائية جامدة ام متحركة كيف السبيل إلى تطوير العالة الجنائية وتجديدها.

الفصل الأول : العدالة الجنائية : الثابت والمتغير :

ان الفكر الجنائي استطاع ان يزحف بثبات إلى الامام فلامس العدالة الجنائية وتعرف على مظاهرها وعايش معانيها، فوضع مبادئ لن يقبل التراجع عنها ولن يرضى عنها بديلا، وفي نفس الوقت رفض الجمود وساير الواقع الاجتماعي وبحث باستمرار عن الحلول المتاحة جنائيا من خلال القواعد القانونية شكلا وموضوعا.

1- المبادئ الراسخة للعدالة الجنائية : الثوابت :

سنقتصر على الاشارة إلى بعض هذه المبادئ التي اصبحت لازمة من لوازم العدالة الجنائية.

أولا : الأصل في الانسان البراءة :

ان هذا المبدأ الخالد مظهرا من مظاهر العدالة الجنائية، فقد عانت الانسانية الأمرين من جراء غياب هذا المبدا، وكان الظلم الاجتماعي باديا للعيان، فيكفي ان يوجه الاتهام لفرد من الجماعة لكي يصبح محكوما عليه مذنبا ومدانا، ويصبح مطالبا باثبات براءته أو يترك الامر للأقدار لكي تتكفل باثبات براءته، فقد مضى على المتهمين حين من الدهر كان يقذف بهم إلى الوحوش الضارية فان صرعوها برؤوا انفسهم وان صرعتهم فالاصل هو إذنابهم، أو يلقى بهم في واد سحيق ذي تيار جارف فان نجوا اثبتوا براءتهم وان غرقوا اخفقوا في اثبات العكس .

وهكذا كانت العدالة الجنائية في ايام خلت ووفق عادات ومعتقدات سادت ثم بادت، وبدات هذه النظرة المختلفة تتغير شيئا فشيئا بفضل المجهودات التي قام الفلاسفة والمفكرون، وبدا الانسان يستعيد انسانيته وكرامته وحريته بعد ان مسخت هذه المعاني طوال عصور مظلمة كانت العبودية والتسلط والظلم والاستبداد اهم مظاهرها.

وهكذا اصبح الانسان الذي تلده امه بريئا اصبح من حقه ان يحتفظ لنفسه بهذا الأصل وبهذه البراءة إلى ان يثبت المجتمع العكس، والدولة التي تمثل المجتمع تأخذ على عاتقها هاته المهمة عن طريق مؤسسة النيابة العامة التابعة لها، وجهت اتهاما إلى احد افراد المجتمع، فعليها ان تقيم الحجة على صحة هذا الاتهام وصحة نسبته إلى فرد بعينه فالفرد هنا لن يتحمل ما لا طاقة له به، لن يكلف باثبات براءته، لان انسانيته تكفيه شر هذا الاثبات وبعد مبدا الأصل في الانسان البراءة احد الاعمدة الاساسية التي يقوم عليها بنيان العدالة الجنائية المعاصرة وثابتا من الثوابت التي لا تراجع عنها.

ثانيا : لا جريمة ولا عقوبة الا بنص :

لا يجوز القول ان العدالة الجنائية كانت موجودة ايام كان التجريم والعقاب خاضعا لمزاج الحاكم المستبد، الذي يحل الفعل اليوم ويحرمه غدا دون سابق اشعار، ويعاقب من شاء وبما شاء، فلا رقيب ولا حسيب فقد كان الافراد يعيشون في بحر لجي من التعسفات والخروقات فأصناف العقوبات غير محددة بل مرتبطة باختيارات الحاكم ولائحة الجرائم غير مقيدة بل مفتوحة على الدوام يضيف إليها الحاكم وينقص في كل وقت وحين.

ولكن الانسانية وبعد صراعات مريرة ومعاناة طويلة استطاعت ان تغير هذا الواقع سعيا نحو تحقيق عدالة جنائية منشودة، فدخل مبدا الشرعية إلى التشريعات بعد ان راج طويلا في عالم الفكر والتنظير، واصبح ركنا من اركان العدالة الجنائية فلا جريمة الا بنص ولا عقوبة الا بنص في القانون، ولا يمكن ان تجردني من العذر بجهل القانون اذ لم تنذري مسبقا بان اقترافي لفعل معين ممنوع ومجرم ويترتب عنه عقوبة محددة سلفا فلا يمكنني ان اشعر بالعدالة الجنائية في غياب ذلك، والقاضي الذي يحاكمني لا يمكنه ان يخلق الجرائم أو عقوبات غير منصوص عليها قانونا، ويحظر عليه ان يستعمل القياس أو ان يتوسع في تفسير النصوص الجزائية بغية استيعاب حالات اجرامية لم يقع التنصيص عليها.

2- موضوع العدالة الجنائية وشكلياتها : المتغيرات :

انه للعدالة الجنائية شقين : شق موضوعي يضم جملة من القواعد القانونية التي تحدد افعال الانسان المجرمة والعقوبات المقررة لها في اطار القانون، وشق شكلي يضم ثلة من القواعد القانونية المسطرية التنظيمية التي توضح طرق اكتشاف الجرائم والبحث عن مرتكبيها والتحقيق معهم ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة عليهم، والواقع ان الشقين معا متكاملين لا غنى لاحدهما عن الاخر، وما يميزها معا هو ذلك التطور المستمر والتغير الدائم الذي يطبع قواعدهما.

أولا : القواعد الموضوعية أو القانون الجنائي :

يضم القانون الجنائي مجموعة من القواعد القانونية التي تحصر افعال الانسان وامتناعاته التي تعد جريمة في نظر القانون وتضع لها عقوبات أو تدابير وقائية لزجر مرتكبيها، والقانون الجنائي بقواعده الموضوعية يستهدف أولا حماية المجتمع من الجريمة بمختلف اشكالها وثانيا يعبر عن ارادة جماعية لحماية قيم ومصالح معنية يعد العدوان عليها مستنكرا وغير مقبول، وهذا يعطي لقواعد القانون الجنائي ديناميكية وحركة دائمة وهو ما يفسر التعديلات العديدة التي تعرفها قوانين العقوبات في مختلف التشريعات المقارنة، فاول قانون عقوبات صدر في فرنسا سنة1791 ومنذ ذلك التاريخ والتعديلات تطرأ عليه بشكل مستمر الى حدود السنوات الاخيرة التي صدر فيها قانون العقوبات الفرنسي الحالي في 22 يوليوز1992 وبدا العمل به فاتح مارس1994.

اما القانون الجنائي المغربي فما زال بدوره يعرف العديد من التعديلات المتواصلة فقد صدر بتاريخ 26/11/1962 وشرع في تطبيقه في 17/6/1963 بعد ان الغى مجموعة من الظهائر التي أوجبت تطبيق قانون العقوبات الفرنسي المغربي، وقد استمرت التعديلات المدخلة على هذا القانون اذ لا يفصل بين التعديل والتعليل الا بضع سنين، ويجري الان الحديث عن اعداد مشروع لمدونة القانون الجنائي المغربي والتي ستقوم بمراجعة شاملة لنصوص القانون الجنائي الحالي.

وما نود التشديد عليه هو ان العدالة الجنائية تقتضي ان تكون نصوص القانون الجنائي محط تتبع مستمر من لدن المشرع ليزيد فيها وينقص ويعدل ويراجع بحسب الحاجيات المجتمعية المتطورة.

وربما اعطى امثلة على ذلك لمزيد من التوضيح فالفصل الأول من القانون الجنائي الحالي مثلا جاء فيه " يحدد التشريع الجنائي افعال الانسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية" فهذه العبارة الاخيرة التدابير الوقائية لم تكن في النص السابق وانما استحدثت تمشيا مع التطورات التي عرفها الفكر الجنائي خاصة فيما يتعلق بعلم العقاب.

اعطى مثال اخر بالفصل 521 من ق ج " من اختلس عمدا قوى كهربائية أو أي قوى ذات قيمة اقتصادية يعاقب ..." فقبل التدخل التشريعي بالتجريم كان فعل اختلاس التيار الكهربائي محط خلاف كبير، هل يعد سرقة رغم ان الشيء المسروق ليس له تجسيد مادي؟ فتدخل المشرع لاستيعاب هذه الافعال وادخالها في دائرة التجريم والعقاب. ايضا الفصل 533 من ق ج : " من ركب سيارة اجرة وهو يعلم انه يستحيل عليه مطلقا ان يدفع اجرة مقعده يعاقب .... " هذا الفصل ايضا لم يكن له وجود من قبل وكان خارجا عن دائرة التجريم والعقاب.

ايضا الفصل 575 من ق ج المتعلق بالاعتداء على الملكية الفنية والادبية أي حقوق المؤلفين هو ايضا من المستجدات التي لم تكن معروفة من قبل وانما وجدت واستحدثت نتيجة للتطورات الفكرية التي عرفها المجتمع المغربي.

ولا يخفى عليكم ايضا ان الكيف كان مباحا وكان ظهير 12 نونبر1932 يمنح لشركة التبغ احتكار التبغ والكيف الا ان المشرع تدخل بمقتضى ظهير 1954 ليجعل الاحتكار منحصرا في مادة التبغ وليمنع الكيف. اذن فالقواعد الموضوعية قابلة للتغير المستمر، فما كان مباحا بالامس قد لا يبقى كذلك اليوم وما هو ممنوع اليوم قد يصبح مباحا غدا ونذكر في هذا الصدد الظهير الاستعماري كل ما من شانه" 1935" الذي تم الغاؤه، لان الظروف التي وضع فيها والغايات التي استعمل لاجلها لم تعد قائمة، ويمكن ان نشير بصفة عامة إلى جريمة الزنا التي لم تعد مجرمة في العديد من التشريعات الغربية وحتى بعض التشريعات العربية إلى حد ما، والامثلة كثيرة على التغيير الذي يطبع قواعد القانون الجنائي والذي قد يكون تغيرا ايجابيا كما قد يكون سلبيا، وربما نختم سلسلة الامثلة باخر تعديل عرفته مجموعة القانون الجنائي بمقتضى الشريف رقم 10102 الصادر بتاريخ فبراير2001 تمم الفصل 303 الخاص بالسلاح بالفصل 303 المكرر الذي اصبح بمقتضاه حمل السلاح جريمة معاقب عليها ما لم يكن الحمل بسبب النشاط المهني أو لسبب مشروع.

ثانيا : القواعد الشكلية أو المسطرة الجنائية :

يضم قانون المسطرة الجنائية مجموعة من القواعد القانونية التي توضح الطرق المتبعة للبحث عن مرتكبي الجرائم والتحقيق معهم ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة عليهم وتحديد السلطات المختصة بذلك، ان القواعد الشكلية لقانون المسطرة الجنائية تستهدف الموازنة بين مصلحتين متعارضتين، من جهة مصلحة الجماعة التي تسعى إلى معاقبة المذنبين ومكافحة الاجرام بمختلف اشكاله، لضمان سيادة القانون واحترامه ومن جهة اخرى مصلحة الفرد سواء كان جانيا من خلال تمكينه من وسائل الدفاع عن نفسه وحقه في اثبات براءته أو مجنيا عليه من خلال ضمان جبر الاضرار المادية والمعنوية اللاحقة به، وفي اطار تحقيق هذه الاهداف تعرف القواعد الشكلية تغيرات وتعديلات مستمرة تتراوح بين المد والجزر وبين التقدم والتاخر حسب فترات الانفراج والانفتاح التي يعرفها المجتمع أو فترات الضيق والاحتقان التي يعيشها، فقانون التحقيقات الجنائية الفرنسي صدر سنة 1808 وبدأ العمل به في 1811 ومنذ ذلك التاريخ عرضة للتعديلات إلى حدود السنين الاخيرة التي صدر فيها قانون 4 يناير 1993 الذي ادخل تعديلات عميقة على قانون المسطرة الجنائية الفرنسية. اما قانون المسطرة الجنائية المغربية فهو ايضا مجال مفتوح للتعديلات والتغييرات المستمرة، فمنذ صدوره بتاريخ 10/02/1959 طرأت عليه جملة من التعديلات سنة 1962 و1974 بمقتضى ظهير الاجراءات الانتقالية ثم تعديلات سنة1991 وتعديلات 1993 وما تلاها والان يطرح مشروع مدونة المسطرة الجنائية للنقاش بعد ان صادق عليه مجلس الوزراء مؤخرا.

والملاحظ ان التعديلات التي عرفها قانون المسطرة الجنائية كانت مرتبطة بالتحولات والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يعرفها المغرب، فالتعديلات التي ادخلها ظهير1962 مثلا سجلت تراجعات خطيرة على مستوى ضمان الحريات الفردية من خلال الزيادة في مدد الوضع تحت الحراسة والاعتقال الاحتياطي عما كان عليه الوضع سابقا.

اما ظهير المقتضيات الانتقالية سنة 1974 فلم يخل ايضا من تراجعات ضيقت من الحقوق التي كان يتمتع بها المتهمون فلم يعد التحقيق اجباريا في الجنايات واختياريا في الجنح وامكانيا في المخالفات ان طلبت النيابة العامة ذلك بل اصبح طابعه الاجباري مقتصرا على الجنايات المعاقب عليها بالاعدام أو السجن المؤبد أو التي يرتكبها حدث.

ونتيجة الانتقادات الفقهية التي وجهت والمطالبات المستمرة التي عبرت عنها فعاليات المجتمع المدني وجمعياته وقواه ومنها جمعية هيئات المحامين بالمغرب عبر مؤتمراتها العديدة، فقد ادخلت تعديلات توحي بوجود توجه تشريعي جديد وروح جديدة على مستوى التعديلات تغاير التوجهات التي عبرت عنها التعديلات السابقة.

وظهر ذلك على الخصوص من خلال تقليص مدد الحراسة التي اصبحت 48 ساعة قابلة للتمديد 24 ساعة فقط في الجرائم العادية و96 ساعة يمكن تمديدها مرة واحدة فقط في جرائم أمن الدولة الداخلي وكذا مدة الاعتقال الاحتياطي التي اصبحت شهرين عوض اربعة اشهر واصبح تمديد هذه المدة ممكنا في حدود خمس مرات فقط.

واصبح لزاما على وكيل الملك في الفترة الاخيرة من الفصل 76 ولزاما ايضا على قاضي التحقق ان يخضعا المتهم إلى فحص يجريه طبيب خبير إذا عاينا اثارا تبرر ذلك أو طلب منهما ذلك وهذا مقتضى قانوني لم يكن معترفا به من قبل، اضافة إلى تمتين حقوق الدفاع من خلال السماح للمتهمين بالافادة من مؤازرة المحامين أمام وكيل الملك وقاضي التحقيق اثناء الاستنطاق الاولي.

كما اصبح مفروضا على ضابط الشرطة القضائية ان يقوم باشعار عائلة المحتفظ به رهن الحراسة فور اتخاذ قراره بالوضع تحت الحراسة والان يوضع على طاولة النقاش مشروع مدونة المسطرة الجنائية الذي تضمن تعديلات جوهرية ارتأوا واضعو المشروع انها تساير التطورات التي عرفها المجتمع المغربي وتساير الافكار التي ينادي بها الفكر الجنائي على المستوى الدولي، وستستمر القواعد الشكلية في التغير والتحول وفي الحركة والتطور، لان طبيعتها اقتضت ذلك كما ان النظام الاجرائي الذي قد يصلح للعدالة الجنائية اليوم قد لا يصبح صالحا غدا وان كان قانون المسطرة الجنائية المغربي مازال امامه الكثير، وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل الثاني من هذا الموضوع

الفصل الثاني: افاق تحديث العدالة الجنائية :

تواجه العدالة الجنائية اليوم تحديات لم تكن مطروحة من قبل تحديات تمتحن الوسائل التقليدية التي تعتمدها والمناهج والنظم الاجرامية التي تعمل وفقها، لقد ظهرت اشكال جديدة من الاجرام استفادت من الثورة العلمية والتقنية الحديثة "جرائم الحاسوب والانترنيت والجرائم ضد الانسانية وجرائم المواصلات السلكية واللاسلكية وجرائم البيئة" وفي نفس الوقت اصبحت الحقوق والحريات الفردية معترفا بها على المستوى العالمي اكثر من أي وقت مضى، واصبح على العدالة الجنائية ان تساير المعطيات التكنولوجية بسرعتها ودقتها وضبطها بدلا من الاعتماد على اساليب عمل تقليدية مكلفة وبطيئة لذلك اصبح العمل جادا على المستوى الدولي من اجل حوسبة العدالة الجنائية وجعلها اكثر عصرنة واكثر علمية، وان كان ذلك غير كافي وحده، إذ ان العدالة الجنائية لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، فتحقيق العدالة في شقها الجنائي لن يتم الا بشكل مواز مع تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية السياسية وذلك عن طريق الاهتمام بالطبقات الاجتماعية المحرومة ومحاربة اشكال الفقر والبطالة والقضاء على الامية وتشجيع التعليم وتوفير السكن اللائق ورعاية الطفولة وفتح المجال للحريات العامة في اطار الالتزام والمسؤولية ...

1- أولويات السياسة الجنائية :

نتطرق هنا إلى بعض الأولويات على المستوى الشكلي والموضوعي

أولا : على مستوى القواعد الموضوعية :

الجريمة والمجرم والعقوبة هذه ابرز المحاور التي يهتم بها وبمعالجتها القانون الجنائي، ولاشك ان تحقيق العدالة الجنائية بمفهومها الحديث اضافة إلى مفهومها التقليدي يقتضي مسايرة المجتمعات الانسانية في معتقداتها وقيمها وانماط سلوكها وطريقة تفكيرها، وإذا خصصنا الحديث نوعا ما فان السياسة الجنائية المغربية من واجبها على المستوى الموضوعي ان تراعي المبادئ والميزات التالية :

1- عدم الجمود :

ان جمود نصوص القانون الجنائي، يعني تخلف العدالة الجنائية عن تحقيق اغراضها فبقدر ما يجب ان تكون النصوص الجزائية حاضرة في ضمائر الافراد وثقافتهم بقدر ما يجب ان تكون حاضرة في حياتهم اليومية، لذلك فان من أولويات السياسة الجنائية عدم جمود اليات التجريم والعقاب، فعلى مستوى الجريمة يلاحظ ان نصوص القانون الجنائي المغربي لم تستطع ان تستوعب اشكالا جديدة من الجرائم التي أفرزتها الحياة المعاصرة وسأعطي بعض الامثلة على ذلك فجرائم التزوير لدينا لازالت تقليدية بشكل لا يسمح باستغراق أصناف معينة من التزوير التي اصبح يحفل بها في مجال الالكترونيات، فما زال التزوير مجرما ومعاقبا عليه فقط في الحالات التي ينصب فيها على محور أو مستند بالمعنى الكتابي للكلمة في حين ان التطورات الاقتصادية أدت إلى ظهور ما يسمى بالتزوير الالكتروني خاصة في المجال خاصة في مجال المعاملات البنكية والاتصالات وبرامج الحاسوب، مثال اخر استمده من تجربة مهنية شخصية عشتها في احد الملفات التي كان فيها احد موكلي متابع بمقتضيات الفصل 523 من ق ج " من ركب سيارة اجرة ..." فقد حصل ان كان مؤازري في وضعية راكب حافلة ولم يكن وضعية راكب سيارة اجرة ولم يؤد الثمن، ففي اطار واجب الدفاع القانوني دفعت جاهدا بانعدام النص وتمسكت بمبدا الشرعية ما دام ان نص التجريم يتحدث عن سيارة اجرة ولا يتحدث عن الحافلة أو القطار أو الطائرة أو ما إلى ذلك وان القاضي الزجري يحظر عليه القياس، فكان ان حكمت المحكمة ببراءته من هذه التهمة، وهذا ناتج عن الجحود والذي يؤدي في الكثير من الاحوال إلى افلات المجرمين من العقاب لاعتبارات معقولة وهي غياب النص، هذا على مستوى الجريمة اما على مستوى المجرم فيلاحظ ان الحياة المعاصرة عرفت تزايد ما يسمى بالجرائم الاقتصادية والتي يكون وراء ارتكابها ما يسمى بالاشخاص المعنوية التي يتخفى وراءها بعض الاشخاص الذاتيين أمام غياب نص قانوني واضح يحدد مسؤولية هاته الاشخاص بصفة صريحة.

2- عدم المبالغة في التجريم :

ان التشدد في التجريم والتوسع فيه لم يثبت في يوم من الايام انه كان حلا ناجحا، فالحرص على تجريم الانحرافات السلوكية لافراد المجتمع صغر شانها أو كبر هو منهج غير سليم وقد يؤدي إلى عكس النتائج المرتقبة منه، فكثير من الجرائم المنصوص عليها تتحمل فيها الدولة مسؤولية اكبر من تلك التي يتحملها الافراد، وهذا يفرض اخراجها من دائرة التجريم مثل جرائم التسول والتشرد التي اصبحت غير ذات معنى في واقعنا المغربي، كما ان العديد من الجرائم التي يغلب فيها العنصر المدني كعدم تقديم طفل لمن له حق حضانته أو عدم التصريح بازدياد مولود أو اهمال الأسرة ينبغي اعادة النظر فيها، لان الاضرار التي تنتج عن التجريم والعقاب افدح من الاضرار التي تنتج عن ارتكابها، فالشخص الذي يحكم عليه من اجل هذه الافعال يقضي عقوبة حبسية قد يتحول إلى مجرم حقيقي خلال الفترة التي قضاها في السجن والتي مكنته من الاحتكاك بمجرمين اكثر خطرا واثبت اثرا، كما ان بعض النصوص لم تعد ملائمة للظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها الوطن ويتعين اخراجها من دائرة التجريم مثل الفصل 288 من ق ج الخاص بما يسمى بعرقلة حرية العمل، والذي كثير ما يستخدم للانتقام من حركات اضرابية مشروعة والحد من العمل النقابي، وهذا يجعله فصلا لا علاقة له بجرائم الحق العام.

3- وضع سياسة عقابية ناجحة :

ان تحقيق العدالة الجنائية يكلف ميزانية الدولة مصاريف وتكاليف ضخمة في سبيل القضاء على الجريمة والبحث عن مرتكبيها ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة في حقهم، وهذا يقضي امعان النظر في النتائج المحصل عليها والبحث عن البدائل الضرورية فالتركيز على العقوبة لوحدها غير كاف للوصول إلى الاصلاح المنشود بل لابد من توجيه الاهمال إلى التقليل ما امكن من العقوبات في السالبة للحرية في بعض الجرائم السابقة وتعويضها بالجزاءات الادارية أو على الاقل بالعقوبات المالية، وتشجيع التدابير الوقائية والبحث على تطبيقها وتنويعها، في حالة ضرورة انزال العقوبات السالبة للحرية فلا بد ان يكون الهدف الرئيسي هو السعي إلى اصلاح المحكوم عليه وتتبع وضعيته داخل السجن وتفادي تهميشه والعمل على تيسير اعادة ادماجه عند مغادرته للسجن، ووضع معايير دقيقة تتيح للقضاء تطبيقا سليما لمبادئ تفريد العقاب والظروف المخففة أو المشددة.

ثانيا : على مستوى القواعد الشكلية :

ان السياسة الجنائية المغربية على المستوى الشكلي مطالبة بمراعاة مجموعة من المبادئ ورسم بعض الاهداف الكبرى في افق الوصول إلى تحقيق العادلة الجنائية من خلال ضمان احترام شروط المحاكمات العادلة والاعتناء بمختلف العاملين في محيط العدالة الجنائية.

1- حماية حقوق الانسان " جنائيا أو مجنيا عليه"

لقد طغى على العدالة الجنائية في وقت من الاوقات الاهتمام بحقوق الانسان كمتهم، واتجه التفكير إلى ضرورة حماية حقوق المتهمين المتابعين وتوفير الضمانات الكافية لهم اثناء محاكمتهم وفي نفس الوقت كان الاهتمام بضحية الجريمة والمتضرر منها قاصرا ومحدودا وربما املت ذلك ظروف معينة، كانت فيها حقوق المتهمين اكثر استهدافا وكانت لا تحظى بقدر كاف من الاحترام، ما الان فقد اصبح من الواجب اعطاء كلمة الانسان معناها الكامل بحيث لا يتم فيها التميز بين مرتكب الجريمة أو المظنون فيه ارتكابها وبين ضحيتها، فلا بد ان تهتم القواعد المسطرية بتوفير الضمانات الكافية لجميع الخصوم في الدعوى العمومية والدعوى المدنية التابعة لها بالنسبة للمتهمين ينبغي ان تتاح لهم جميع وسائل الدفاع عن نفسه في جميع المراحل بما في ذلك مرحلة البحث التمهيدي عن طريق فتح المجال للمحامين لمؤازرة موكليهم خلال هذه المرحلة الحاسمة التي اصبحت السرية التي تطبعها تتسبب في الكثير من الخروقات وتؤدي إلى المس بالحقوق والحريات الشخصية للافراد بعيدا عن أعين الرقباء وبشكل سري يستحيل معه في في اغلب الحالات اثبات هذه الخروقات، اما بالنسبة للتضرر من الجريمة فينبغي ان تحاط الشكايات التي يتقدم بها بما يكفي من الاهتمام وان يبت فيها ويتم تحريك البحث بشانها في اقرب الاجال، مع أعلامه بكل جديد يطرأ خلال جريان المسطرة واستدعائه للدفاع عن مصالحه وحفظ حقوقه وتيسير انجع السبل لتعويضه عن الاضرار والخسائر التي لحقته من جراء الجريمة.

2- العناية بالعاملين في محيط العدالة الجنائية :

ان العناية بالعنصر البشري العامل في محيط العادلة الجناية يعد من الأولويات الاساسية والمقصود هنا هم القضاة سواء كانوا قضاة حكم أو قضاة نيابة عامة وايضا المحامون وكذا كتاب الضبط ورجال الضابطة القضائية والخبراء والمترجمون وغيرهم من المساعدين، والعناية بهؤلاء تكون من خلال توفير الامكانيات المادية والمعنوية وتمكينهم من اداء وظائفهم في احسن الظروف، فبالنسبة للقضاة يتعين تعزيز استقلالهم دستوريا وزيادة في اعدادهم لمواجهة التراكمات التي تعرفها المحاكم الزجرية على مستوى الملفات والقضايا والشكايات، والاهتمام بتجهيز المحاكم بما يليق من مكاتب وخزانات وادخال تقنيات المعلوميات وتعميمها على المستوى الوطني، ونفس الشيء يمكن ان يقال على جهاز كتابة الضبط الذي ينبغي ان يستمتع باستقلالية اكبر، وبإمكانيات عمل حديثة ميسرة تنهي الصلة مع وسائل العمل التقليدية على مستوى الارشفة وترتيب الملفات وطبع الاحكام .. الخ.

اما بالنسبة للمحامين فقد ان الأوان لكي يساهموا بشكل اكبر في تحقيق العدالة الجنائية عن طريق توسيع مجال مؤازرتهم لموكليهم لتشمل مرحلة البحث التمهيدي، وكذا توفير حصانة اكبر اثناء مزاولتهم في الدفاع، في حين ان الالتفات إلى وضعية رجال الضابطة القضائية وظروف عملهم لا يقل اهمية، اذ يتعين الفصل بين الشرطة القضائية والشرطة الادارية بحيث تصبح الأولى تابعة فقط للسلطة القضائية ورهن اشارتها، كما ان النظرة إلى رجال الضابطة القضائية ينبغي الا يتم فيها التركيز فقط على الجوانب السلبية والانحرافات التي تطبع عمل بعض المعنيين بهذا القطاع بل يجب ايضا الاعتراف بالخدمات الجليلة التي يقدمها الكثيرون منهم في سبيل مكافحة الاجرام والقبض على المجرمين معرضين حياتهم وسلامتهم البدنية للخطر، في ظل إمكانيات مادية ولوجستيكية ضعيفة بالمقارنة مع الامكانيات الضخمة التي تخصص للتحقيق والبحث الجنائي في بلدان اخرى على مستوى التجهيزات وطرق البحث العلمية المتاحة والتعويضات الممنوحة والتأمينات المرصودة في حالة التعرض للوفاة أو الاعاقة البدنية.

واذا كنا ننادي دوما بضمان اجور محترمة لمختلف العاملين في محيط العدالة الجنائية، وتوفير الامكانيات المادية والمعنوية لهم فاننا في نفس الوقت نشدد على ضرورة تفعيل اجهزة المراقبة والحرص على استمراريتها لتامين اداء ممتاز لمختلف الاجهزة العاملة على تحقيق العدالة الجنائية.

3- اليات تحديث العدالة الجنائية :

إذا كان حديث العدالة الجنائية هدف نتوخاه جمعيا فاننا نرى ان يتم تنويع اليات الحديث والافادة منها بشكل متواز، ويتعلق الامر في نظرنا بالاليات المهمة التالية :

أولا : الالية الفقهية.

لا شك ان العلوم القانونية في المجال الجنائي تطور بشكل كبير يوازي التطور الذي تعرفه مجالات العلوم الاخرى ولا يمكن للعدالة الجنائية ان تتطور ان هي أدارت ظهرها للحلول والمعطيات العلمية التي يبدعها رواد الفكر الجنائي على المستوى العالمي في علم الاجرام وعلم العقاب وعلم النفس الجنائي وعلم النفس القضائي وعلم الاجتماع الجنائي وعلم الوقاية من الجريمة وعلوم السياسة الجنائية، فما اكثر الندوات والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك وما اكثر الدراسات القانونية التي تنجز على هذا الصعيد أو ذاك في المجال الجنائي وهي كلها مجهودات جبارة تطرح حلولا جادة لابراز المشكلات والتحديات التي تواجهها العدالة الجنائية اليوم والتي لا يمكن لها ان تتقدم إلى الامام وان تصمد دون الاعتماد على الالية الفقهية والافادة من الافكار والنظريات التي تقدمها في هذا الصدد.

ثانيا : الالية التشريعية :

ان التشريع يلعب دورا هاما وحاسما في الطريق نحو تحقيق العدالة الجنائية، فالنص الجنائي السيئ يكون وبالا على العدالة الجنائية، هذه الاخيرة تحتاج إلى المواكبة التشريعية وحسن الصياغة النصية، لذلك يكون الوضوح والبساطة والدقة مطلوبين هنا، اما الغموض والتعقيد فهما مكروهين الى حد كبير، لذلك فالتعابير التي يستعملها التشريع الجنائي احيانا والتي تتميز باتساعها وعدم محدوديتها من قبيل مصطلح " النظام العام" هي تعابير غير مقبولة وان استعملت فيتعين التعريف بها تفاديا لتاويلات مغرضة وبعيدة عن روح العدالة الجنائية كما ان وضع النصوص الاجرائية دون فرض احترامها ومراعاتها تحت طائلة جزاءات معينة، يجعلها فارغة من محتواها ويكون وجودها كعدمها.

ثالثا : الالية القضائية:

ان العدالة الجنائية ستصاب حتما بالخلل على المستوى التطبيق في غياب الالية القضائية الناجعة، لذلك لا بد من الحرص على توفير قضائي جنائي متخصص ومتفرع لتحقيق العدالة الجنائية على ضوء المعطيات العلمية المرتبة بالعلوم الجنائية، وهذا يتيح للقاضي التعامل الايجابي مع الاليات الفقهية والتشريعية فمن المعروف ان النص الجزائي يخضع لطرق تفسيرية ثلاث : التفسير الحرفي الضيق والمحدود والتفسير الروحي المستند إلى ارادة المشرع والغاية من وضع النص القانوني، والقاضي الجنائي المتخصص سيسهل عليه اختيار طريقة التفسير الاسلم كما انه سيهتم اكثر بالتكوين وبالعطاء وسيولد اجتهادات في مصلحة العدالة الجنائية بحكم تخصصه السابق الذكر الذي سيمكنه من احاطة قانونية وعلمية اشمل.

الحكم البات والحكم النهائي

الحكم البات والحكم النهائي

5-8-1427 هـ
هناك من لا يفرق بين الحكم البات والحكم النهائي ويعتبر البات والنهائي مصطلحان لمعنى واحد هو الحكم القابل للتنفيذ ] انظر : مصطفى ، محمود محمود : شرح قانون الإجراءات الجنائية ، ص 493 . حسني ، محمود نجيب : شرح قانون الإجراءات الجنائية ص 973 . [ ، وهناك من يعتبر التعبير بالحكم النهائي صياغة سيئة للقانون وان المفترض أن يعبر بالحكم البات ] الظفيري ، فايز عايد : و بوزبر محمد عبدالرحمن ، التماس إعادة النظر في الأحكام الجزائية دعوة للتطبيق في قانون الإجراءات الجزائية الكويتية ، الكويت ، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية ، العدد 115 ص 111. ] .
إلا أن الباحث يرى أنه بالرغم من أن الحكم البات والنهائي كلاهما قابل للتنفيذ الفوري ، إلا أنه يؤيد من يرى وجود فرق حقيقي بينهما [انظر : سرور ، احمد فتحي : الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية ص 1047. وانظر :عبد الستار ، فوزية , شرح قانون الإجراءات الجنائية ، ص 598 . وانظر: أبو عامر ، محمد زكي : الإجراءات الجنائية ، ص 1063 . وانظر : عبد التواب ، معوض : الأحكام والأوامر الجنائية ، ص 3 ] ؛ حيث إن الحكم النهائي هو الحكم الذي لا يقبل الطعن بالطرق العادية ، بينما الحكم البات هو الذي لا يجوز الطعن فيه بكافة طرق الطعن العادية أو غير العادية ، فالحكم الذي استنفذت فيه طرق الطعن العادية من معارضة أو استئناف أو تمييز يصبح قابلا للتنفيذ وحكما نهائيا ، ولكنه معرض للطعن فيه بطرق الطعن غير العادية سواء كان إعادة النظر أو النقض ، فإذا ما أصبح ممتنعا عن الاعتراض عليه بطرق الطعن غير العادية لفوات موعدها قصدا أو إهمالا ، أو لاستخدامها فعلا لكن فصل فيها بالرفض فحينئذ فقط يصبح حكما باتا.
وعليه فإن القوانين التي تشترط في تسويغ الطعن بإعادة النظر أن يكون الحكم باتا ، وكذلك الشراح عندما يستعرضون شروط الطعن بإعادة النظر ويذكرون أن يكون الحكم باتا ، هم بذلك يريدون الحكم النهائي ، وليس المفهوم الحقيقي للحكم البات الذي ذُكر آنفا .
و عليه يمكننا القول أن الحكم يصبح باتا في الحالات التالية :
1.إذا نص النظام على عدم قابليته للطعن مطلقا بمجرد صدوره ، وكان الحكم غير منهٍ للنزاع ، كما هو في نظام الإجراءات السعودي في المادة 143 ، حيث نص على أن : ” ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل كان للمحكمة أن تحكم على الفور بسجنه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة، ويكون حكمها نهائياً، وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن ذلك الحكم ” •
2.إذا استنفذ الحكم جميع طرق الطعن الممكنة ، العادية وغير العادية .
3.إذا فات موعد تقديم الطعن غير العادي مع علمه بذلك .
ويعتبر نظام الإجراءات السعودي الحكم نهائيا وفقا لما نص عليه في المادة 213 ، وبيان ذلك على النحو التالي :
1.الأحكام المكتسبة للقطعية بقناعة المحكوم عليه .
2.الأحكام المكتسبة للقطعية بتصديقها من محكمة التمييز .
الأحكام المكتسبة للقطعية بتصديقها من مجلس القضاء الأعلى وهي الأحكام في القتل والرجم والقطع ] يقابل مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية محكمة النقض في مصر، وفي الكويت والبحرين وقطر يقابله محكمة التمييز ، وفي الإمارات المحكمة الاتحادية العليا وفي عمان المحكمة العليا ، وقد تشكّل مجلس القضاء الأعلى – بعد تحويل رئاسة القضاة إلى وزارة للعدل – على صفة هيئة تسمى بـ (الهيئة القضائية العليا) وتتولى مزاولة الاختصاص القضائي في القضايا التي يحكم فيها بعقوبة إتلافية، كما تتولى ما تحتاجه المحاكم من تقريرات لمبادئ قضائية أو إجرائية ، وبعد صدور نظام القضاء بموجب المرسوم الملكي رقم م/64 وتاريخ 14/7/1395هـ والذي تضمن في الباب الثاني منه فصلاً يشمل ترتيب المحاكم نصت المادة الخامسة على أن تتكون المحاكم الشرعية من :
1.مجلس القضاء الأعلى . 2.محكمة التمييز
3.المحاكم العامة . 4.المحاكم الجزائية .
وتأسيساً على ذلك تألّف مجلس القضاء الأعلى ليتولى الإشراف على المحاكم وفق الحدود المبينة في نظام القضاء ، ويتكون المجلس بمنصوص المادة السادسة من أحد عشر عضواً يكونون هيئتي المجلس وهما على النحو التالي :
الهيئة الدائمة :وتتألف من خمسة أعضاء متفرغين بدرجة رئيس محكمة تمييز يعينون بأمر ملكي ، ويرأس هذه الهيئة أحد أعضائها في السلك القضائي .
3.الهيئة العامة :وتتألف من أعضاء الهيئة الدائمة للمجلس يضاف إليهم خمسة أعضاء غير متفرغين وهم رئيس محكمة التمييز ووكيل وزارة العدل وثلاثة من أقدم رؤساء المحاكم العامة في المدن الآتية :مكة – المدينة – الرياض – جدة – الدمام – جازان . يضاف إليهم رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي يتولى رئاسة هذه الهيئة وهو بمرتبة وزير.] .
الأحكام الصادرة من محكمة التمييز كما نصت عليه المادة ( 205 ) من نظام الإجراءات الجزائية .
أهمية التمييز بين الأحكام النهائية والأحكام الباتة .
1.فيما يتعلق بقوة الأمر المقضي فهي لا تلحق غير الأحكام الباتة : ويترتب على ذلك أن الأحكام الباتة وحدها هي التي تعتبر سابقة في العود , وهي التي يترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية . كما أنها تكتسب أمام المحاكم المدنية في الدعاوى التي لم يكن قد فصل فيها نهائيا وذلك فيما يتعلق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها .[ سرور ، احمد فتحي : الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية ص 1047 ].
2.من حيث التنفيذ : الأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية لا تنفذ إلا متى صارت نهائية ما لم يكن القانون نص على خلاف ذلك [ عبد الستار ، فوزية : شرح قانون الإجراءات الجنائية ، ص 99]3.من حيث الرجوع إلى الدعوى الجنائية : فانه لا يجوز الرجوع إلى الدعوى الجنائية بعد الحكم فيها نهائيا بناءا على ظهور أدلة جديدة أو ظروف جديدة أو بناءا على تغيير الوصف القانوني للجريمة
من حيث سقوط الدعوى الجنائية : الدعوى الجنائية لا تسقط إلا بالحكم البات دون غيره. [ عبد التواب ، معوض : الأحكام والأوامر الجنائية ، ص 44].

الثقافة القانونية رفاهية أم حاجة

الثقافة القانونية رفاهية أم حاجة

هل الثقافة القانونية مجال أكاديمي تخصصي نتركه لذوي الشأن فقط تحت مقولة (اتركوا الخبز للخباز) أم أنها مجال حيوي مرتبط بمعيشة الناس اليومية و متعلق بشؤونهم الحياتية و شأن له من الخطورة كما هو شأن من يتعامل بالكهرباء مثلا دون دراية أو خبرة فتصعقه الكهرباء .
كثير من الناس يستخف بالقانون فيلقيه جانبا و لا
يبحث فيه و يتعامل مع الناس بما يوحي إليه حسن نيته و ثقته اللامحدودة بذكائه و درايته فيقع ضحية لحسن النية و الاعتماد على بعد نظره الوهمي فيطب في إشكال قانوني لا يخرج منه إلا بعد كوارث و مآسي و خسائر مادية فادحة .
نحن لا نطالب أن
يتحول جميع الناس إلى طلاب حقوق و أن يدرسوا القانون و الاجتهادات و يتعمقوا فيما قاله الفقهاء و يتابعوا ما صدر و ما سيصدر من قوانين و قرارات قضائية و تعديلات و أن يعيشوا في هذه الدوامة التي تحمل يوميا كل ما هو جديد و لكننا نقول إن أي مواطن مهما كانت ثقافته محدودة و مهما كان نوع عمله و اهتماماته يجب أن يكون ملما و بشكل كاف بشتى أنواع القوانين و مطلعا بشكل معقول على الأساسيات القانونية التي لها مساس يومي بحياة الناس .و إلا فإنه سوف يعيش في حقل ألغام خاصة إذا كانت نشاطاته المهنية لها علاقة بالبيع و الشراء و الإيجار و التعهدات و القبض و الصرف و المصارف و التجارة بشكل عام و ذلك كله على سبيل الأمثلة و ليس الحصر .
و تدليلا على
أقوالنا سنحاول أن نأتي ببعض الأمثلة لنجد مكامن الخطر في التصرف بحسن نية دون دراية بما قررته القوانين في الشؤون المبحوث عنها و سنحاول أن نتبسط في الحديث بعيدا قدر الإمكان عن العبارات و التراكيب القانونية الجامدة و الاصطلاحات الأكاديمية لكي يتفهم الإنسان العادي أن التصرف أحيانا بمعزل عن الفهم القانوني السليم و ما يتولد عن هذا التصرف سيؤدي به في بعض الأحيان إلى نتائج لا تحمد عقباها .
1-
مثال
:
قد يدعي أحد الأشخاص على مجموعة من الناس بموضوع جزائي و قد
يتصالح مع أحدهم أو يشفق عليه و يذهب إلى المحكمة طالبا إسقاط الحق الشخصي عن هذا الأخير فقط و يتم هذا الإسقاط أصولا و لكنه يقع في الفخ هنا لأن الفقرة الثالثة من المادة 157 من قانون العقوبات العام تقول : (( الصفح عن أحد المحكوم عليهم يشمل الآخرين )) .و بهذا فإن دعواه تصبح غير ذات معنى أو تأثير في حق الآخرين أيضا .
2-
أيضا
:
قد يكون المدعى عليه سجينا بسبب الدعوى و يذهب أهل الخير
إلى المدعي طالبين العفو عن هذا السجين و عدم المعارضة في إخلاء سبيله فيقوم المدعي بدافع الشفقة و ظنا منه أن دعواه في حرز حريز فيسقط حقه الشخصي عن الموقوف ظنا منه أن هذا الإسقاط ينسحب فقط على التوقيف و ينتهي عند إخلاء السبيل دون أن يعرف أنه هنا خرج من الدعوى نهائيا و لم يعد له الحق في أية مطالبة لأن الساقط لا يعود و (( لأن الصفح لا ينقض و لا يعلق على شرط و لأنه يمكن استنتاج الصفح من كل عمل يدل على عفو المجني عليه أو على تصالح المتداعين )) – الفقرتان الأولى و الثانية من المادة 157 عقوبات عام- .
3-
أيضا
:
قد يبيع أحد الأشخاص سيارته و يسلمها إلى
المشتري بموجب عقد عادي و يتراخى في فراغ هذا المبيع لدى الجهة الإدارية المختصة و يكتفى بعقد البيع العادي انطلاقا من حسن النية و من أن عقد البيع الذي يحمله كافيا لإنهاء أية علاقة تربطه بالسيارة المبيعة مستهترا في أن السيارة لا زالت بملكيته في دوائر المواصلات و أن الحوادث أو الجرائم التي ترتكب بواسطة هذه السيارة ما زال يتحمل هو مسؤوليتها المدنية كمسؤول بالمال ( مخالفة سير ... تهريب ... تسبب بالوفاة ... أضرار مادية .. أضرار جسدية ) و قد جاء في القانون : (( مالك المركبة الآلية و سائقها مسؤولان مدنيا عن الإضرار الجسدية و المادية التي تنتج عن استعمال مركبته بالتكافل و التضامن)) – المادة 196 فقرة أ من قانون السير – كما جاء أيضا : (( إذا انتقلت المركبة الآلية من مالك إلى آخر فإن المالك السابق يبقى مسؤولا مدنيا إلى جانب المالك الجديد و ضمن حدود المبالغ المذكورة في عقد التأمين العائد له حتى يتم انتقال رخصة السير إليه بصورة رسمية )) – المادة 198 من قانون السير – و سيبذل هذا المالك جهودا مضنية أمام القضاء لإثبات أن السيارة خرجت من ملكيته قبل هذه المخالفات و الجرائم و لن يخرج من هذه الدوامة إلا بعد سنوات طويلة و بشق الأنفس إذا استطاع أن يخرج .
4-
أيضا
:
اشترى شخص عقارا مسجلا بالسجلات العقارية
( الطابو ) و تراخى في نقل الملكية لإسمه في هذه الدوائر و اكتفى بعقد البيع العادي الذي يحمله ... هنا قد يقوم البائع ببيع هذا العقار مجددا إلى مشتري آخر و إذا قام هذا الأخير بنقل الملكية في السجل العقاري لأسمه قبل المشتري الأول فإن المشتري الأول لا يستطيع المطالبة بعين العقار و ينحصر حقه في التعويض فقط ... لماذا ؟ ... لأن الملكية العقارية تنتقل بالتسجيل و لأن المادة 825 من القانون المدني تقول (تكتسب الحقوق العينية العقارية و تنتقل بتسجيلها في السجل العقاري )) و صاحب الإشارة الأسبق هو الأحق بالتفضيل هذا إذا لم يثبت أن هناك تواطؤا بين البائع و المشتري الجديد الأمر الذي يحتاج إلى عدة سنوات في المحاكم لإثبات ذلك و إلى ضياع المشتري الأول لعمره في متاهات القضاء ... هذا ناهيكم عن أن الاجتهاد القضائي المستقر لا يعتبر أن البائع في هذه الحالة محتالا انطلاقا من أن العبرة في الملكية هي لقيود السجل العقاري .
5-
أيضا
:
قد يشتري شخص بضاعة ما وتبقى
ذمته مشغولة بباقي الثمن إلى أحد ما وهنا قد يجبره البائع على توقيع سند أمانة بالمبلغ المتبقي ويعجز صاحبنا لاحقاً عن الدفع في الموعد المحدد... يستطيع البائع هنا أن يرفع دعوى جزائية على المشتري بإساءة الأمانة ويبرز سند الأمانة وينكر أن الموضوع يتعلق بالبيع والشراء والمحاكم في هذه الحالة لا تقبل إثبات عكس ما ورد في السند الخطي إلا بسند خطي مماثل وتحكم على المشتري بالحبس لارتكابه جرم إساءة الائتمان ويرد المبلغ مع التعويض أي أن المشتري أصبح مجرماً ويستحق الحبس لمجرد أنه عجز عن السداد في الموعد المحدد.
6-
أيضا
:
ما تعارف عليه بعض التجار
الخبثاء إذ لا يقبلون أية ضمانة لمبلغ مؤجل الدفع إلا بشيك أصولي رغم علمهم أن هذا الشيك بدون رصيد فيوقع المدين مكرها على هذا الشيك وعندما يعجز عن الدفع في الأجل المتفق عليه يستحصل الدائن على تأشيرة من المصرف بأن هذا الشيك بلا رصيد ويرفع الدعوى على المدين ويقدم الشيك إلى القضاء وهنا لا يستطيع القضاة جميعاً أن يفعلوا شيئاً لصالح المدين رغم قناعتهم ببراءته وبأن هذا الشيك فخاً وقع فيه رغم أنفه وليس أمامهم إلا تطبيق الأحكام المنصوص عنها في جريمة الشيك بلا رصيد وإلقاء هذا المدين في غياهب السجن ستة أشهر على الأقل والحكم عليه بدفع قيمة الشيك مع التعويض .
7-
وأيضا وأيضاً وأيضا
:
قد يشهد أحد الناس في وقائع جريمة أمام قاضي
التحقيق ثم يرتأي وبحسن نية أنه لا داع للتورط في هذا الموضوع وإغضاب أشخاص لا مصلحة له في إغضابهم ويرى أن بقاءه على الحياد هو الأفضل له وهو الموقف السديد فيعود عن شهادته ويقرر أمام محكمة الجنايات أنه لا يعرف شيئاً ولم يشهد شيئاً وأن أقواله السابقة ليست صحيحة فيقع في مطب الشهادة الكاذبة في قضية جنائية ويذهب من باب المحكمة رأساً إلى باب السجن لمجرد أنه ظن أن الحياد هو القرار السديد وأنه لا داعي ( لوجع الراس ) ولمجرد أنه جاهل بالقانون وجاهل أن الرجوع عن الشهادة جريمة يعاقب عليها القانون (( إذا أديت شهادة الزور أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر )) – الفقرة الثانية من المادة 398 من قانون العقوبات العام-.
هذه أمثلة تراءت لي على عجل و أثناء كتابة هذا
المقال و هي غيض من فيض و هناك مثيلات لها ليس لها عد و لا حصر تصادف الإنسان يوميا و يأخذ فيها القرار و يتصرف على أساس معلوماته المتواضعة و غالبا بحسن نية أو تحت تأثير ضغوطات أدبية آنية يود التخلص منها فيقع في المشاكل و يدخل إلى حقل الألغام الذي لا يعرف فيه أين مكان اللغم و متى سينفجر .
و هنا نسأل ... ما الذي يمنع أن
يكون هذا الشخص الذي جئنا بالأمثلة حوله عالما تقريبا بما يقوله القانون في هذا الشأن و مطلعا على عواقب التصرف الخاطئ ...
و نعتقد انه ليس صعبا على هذا الشخص
أن يعرف فيما لو كان محبا للاطلاع و راغبا في معرفة ماله و ما عليه و ملما بما قالته القوانين في أن الصفح عن أحد المحكوم عليهم هو صفح عن الآخرين و أن الصفح بكل الأحوال هو تنازل عن أي حق شخصي يمكن أن يطالب به و انه لا تراجع عن هذا الصفح و أن نقل ملكية السيارة التي باعها لإسم المشتري فورا لدى دوائر المواصلات هو الحل الأسلم له و أن نقل ملكية العقار الذي اشتراه لاسمه في السجل العقاري فورا هو الأفضل من النوم بين القبور و أن التوقيع على سند عادي في كل بيع أو شراء أو أي انشغال ذمة هو التصرف الصحيح في المعاملات المدنية و التجارية و ليس سندات الأمانة أو الشيكات التي هي ألغام مؤقتة لا يجب الاستهتار بها لأنها سوف تقوده إلى السجن مهما ناضل على منابر القضاء و أن الشهادة الصادقة على واقعة معينة شهدها هي حق للمجتمع و لم تعد ملكه الشخصي يستطيع حجبها أو تغييرها متى شاء و إلا فانه معرض للسجن إضافة إلى ارتكاب الإثم في نظر الدين و المجتمع ((و من كتم الشهادة فانه آثم قلبه )) .
من هنا جاءت أهمية الحديث عن الثقافة القانونية فالقانون يتدخل في
كل حركة و كل خطوة يقدم عليها الإنسان الأمر الذي يوجب علينا معرفة هذا ( القانون ) و على الأقل عمومياته ... عناوينه العريضة ... مكامن الخطر فيه و ليس ضروريا أن نغوص في الأعماق أو نبحر في الشروح أو نفهم القانون كما يفهمه المختصون تماما بل أن نثقف أنفسنا بعض الشيء في هذا العلم كما في باقي العلوم و نترك الباقي إلى أرباب الاختصاص إذا تطلب الأمر تدخلهم .
و كما قال احدهم : الاختصاصي هو الذي يعرف كل
الشيء عن شيء واحد فقط بينما المثقف هو الذي يعرف بعض الشيء عن كل شيء في هذا العالم .
فلماذا لا نحاول أن نضع أنفسنا مع المثقفين ؟
....

التعذيب القضائي .. اعترف واحصل على حكم مخف

التعذيب القضائي .. اعترف واحصل على حكم مخفف

- مارتن وولف - 30/11/1428هـ
دخول السجن في الولايات المتحدة، خصوصاً بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى، هو على الأرجح دخول في دهر من العذاب.
أثارت قضية ثلاثي بنك ناتويست قلقاً هائلاً في أوساط مجتمع الأعمال في بريطانيا. لكننا علمنا هذا الأسبوع أن المصرفيين (البريطانيين) الثلاثة الذين كانوا يعملون في السابق لدى بنك ناتويست أقروا في لائحتهم الجوابية على الاتهامات الموجهة إليهم بأنهم مذنبون بتهمة التحايل للحصول على أموال بسبل غير مشروعة من خلال الاتصالات الإلكترونية. فهل كانت الضجة الهائلة التي أثيرت حول الموضوع مجرد جعجعة بريطانية لا طائل من ورائها؟ جوابي عن هذا السؤال: "لا". إن كون هؤلاء الرجال الثلاثة أقروا بالذنب في لائحتهم الجوابية لا يثبت أنهم مذنبون. وإنما يثبت أن العروض التي قدمها لهم ممثلو المدعي العام الأمريكي هي من النوع الذي لا يستطيع الإنسان العاقل رفضه. فالضغوط التي يستطيع أن يبذلها مكتب المدعي العام هناك تجعل من المعقول، حتى بالنسبة للإنسان البريء، أن يقر بالذنب في لائحته الجوابية. ولا علم لي إن كان هذا ما حدث في الواقعة الحالية، لكن إن كان هذا ما حدث فليس في ذلك مفاجأة كبيرة.
هناك جانب آخر في هذه القضية يبعث على القلق والانزعاج، وهو أنه تم تسليم المتهمين الثلاثة إلى حكومة الولايات المتحدة بموجب معاهدة تم التوقيع عليها بين بريطانيا والولايات المتحدة عام 2003، تتيح للمحاكم الأمريكية استجلاب الأفراد دون إقامة دعوى ظاهرة الوجاهة ضدهم أولاً في إحدى المحاكم البريطانية. ويرى كثيرون أن السبب الوجيه لهذا التغير كان الحاجة إلى التعاون حول قضايا الإرهاب. ومع ذلك هذه المعاهدة من الناحية العملية استخدمت بصورة مكثفة ضد رجال الأعمال البريطانيين من قبل ممثلي المدعي العام الأمريكي الذين يستهدفون مكافحة الجرائم في عالم الأعمال والمسؤولين الحكوميين.
ولأن كثيراً من رجال الأعمال البريطانيين لهم تعاملات بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة، فإن انكشافهم أمام هذا النشاط القضائي المندفع أمر بيِّن تماماً. والأمر الذي جعل قضية ثلاثي ناتويست لافتة للنظر أكثر من غيرها هو أن البنك الذي يفترض أنه الضحية المفترضة لعملية التحايل، لم يطالب السلطات البريطانية قط بالتحقيق في هذه الأحداث.
ومع ذلك، فلماذا ينبغي على أي شخص الاعتراض على تسليم ثلاثة مشبوهين بريطانيين لمواجهة النظام القضائي الأمريكي؟ أليست أمريكا هي قلعة سيادة القانون؟ أخشى أن الجواب "لا للأسف". إن الرغبة في العثور على مذنبين اكتسحت افتراض البراءة (كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته) الذي يقوم عليه النظام القضائي الأنجلو سكسوني. من السهل أن نفهم الإحباط الذي يشعر به ممثلو النائب العام الطموحون والسياسيون الجماهيريون حول صعوبة إرسال المجرمين إلى السجن. لكن القضايا الصعبة يغلب عليها أن تؤدي إلى الغموض في القانون الواضح من خلال الاستثناءات في التفسيرات وتحميلها ما لا تطيق. وما نراه الآن هو مثال جيد على هذه الحقيقة البدهية.
إن التفاوض حول اللائحة الجوابية (بين ممثلي المدعي العام ومحامي المتهم) أمر فعال، بسبب وجود أربع سمات بارزة تميز النظام القضائي الأمريكي، وهي القسوة المفرطة للعقوبات؛ والارتياع المفهوم مما يمكن أن يحدث داخل السجن؛ والنتيجة غير المؤكدة للقضايا حين تجري محاكمتها أمام هيئة محلفين؛ وإمكانية الحصول على حكم مخفف للغاية (قياساً بالعقوبة الأصلية) في حالة الموافقة على الإقرار بالذنب في اللائحة الجوابية.
في حالة ثلاثي ناتويست، يواجه المتهمون إمكانية الحكم عليهم لمدد تصل إلى 35 سنة في السجن على جرائهم المزعومة. وهذا دليل على الهوة في الثقافة التي اتسعت بين الولايات المتحدة وبريطانيا، من حيث إن هناك إمكانية لفرض عقوبة تعتبر في حكم السجن المؤبد على ضلوعهم المزعوم في مساعدة أندرو فاستو، الذي كان كبير الإداريين الماليين لدى شركة إنرون في ذلك الحين، في التحايل على إنرون.
إن حكماً من هذا القبيل يمكن أن يكون أطول بكثير من أي حكم يمكن أن يتوقع أن يمضيه أي مجرم في بريطانيا، باستثناء قلة قليلة من المجرمين. ومع ذلك هذا الحكم على ما يبدو يعتبر وكأنه منطقي تماماً في الولايات المتحدة. لكن الموضوع لا ينتهي عند هذا الحد. إن الحكم بدخول السجن في الولايات المتحدة، خصوصاً بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى، هو على الأرجح حكم بالدخول في دهر من العذاب. وما يؤكد ذلك أن عدداً من الأمريكيين الساخرين علقوا على الشكاوي التي أثيرت بخصوص عمليات التعذيب التي تعرض لها السجناء العراقيون في سجن أبو غريب بقولهم إن ما حدث لا يعتبر تعذيباً بالمعنى الفعلي، على اعتبار أنه ليس بأسوأ مما يمكن أن يحدث للسجناء في أحد السجون الأمريكية.
والآن تخيل أنك ستواجه حكماً من هذا القبيل إن تمت إدانتك. تخيل أيضاً أنك تؤمن ببراءتك من جميع التهم المنسوبة إليك، لكنك تدرك التعقيد الكبير للقضية والسهولة التي يستطيع بها ممثل الادعاء العام تحوير الأدلة ضدك أمام هيئة محلفين لا علم لها بذلك (ولعلها تكون متحاملة عليك). ربما تفترض أن أمامك فرصة نسبتها 20 في المائة أن تثبت عليك التهمة. وهذا أمر معقول بصورة خاصة إذا نفدت مواردك المالية وبالتالي لم يعد بمقدورك توظيف فريق محامين من الطراز الأول. ماذا سيكون موقفك إذا عرض عليك ممثلو الادعاء العام صفقة في تقديم الدفع القانوني تمضي بموجبها 37 شهراً في السجن في بلدك الأصلي (وأن تدفع تعويضات مقدارها 7.3 مليون دولار إلى رويال بانك أوف سكوتلاند، المالك الحالي لبنك ناتويست)؟
الجواب هو أن معظم الناس سيقولون إنهم مذنبون، ليس لأنهم مذنبون بالفعل، وإنما لأن هذا ما يفعله أي إنسان لا يريد المجازفة بمستقبله.
من وجهة نظري هذا النظام هو في حكم من ينتزع الاعتراف بالذنب تحت شكل من أشكال التعذيب النفسي. يتألف هذا التعذيب من الخوف المعقول من أن يجد المرء نفسه مذنباً خلال المدة التي يمكن أن يقضيها في السجن والخوف مما يمكن أن يحدث أثناء وجود المرء هناك. وأي شخص، باستثناء أشجع الشجعان، سيعترف بأية تهمة تقريباً في سبيل النجاة حتى من إمكانية التعذيب. وبالطريقة نفسها، فإن غالبية الناس ستعترف بالتأكيد بأية تهمة تقريباً لتجنب إمكانية تمضية بقية حياتهم في السجن. إن إدراك عدم جدوى الاعترافات التي تنتزع تحت التهديد بالعذاب كان السبب الرئيسي الذي من أجله تخلت الأنظمة القضائية المتحضرة عن استخدامه. وينطبق الشيء نفسه على اللائحة الجوابية التي تتضمن الإقرار بالذنب في بعض ما يوجه إلى المتهم والتي يتم التوصل إليها من خلال التفاوض على الدفع القانوني المستخدم في حالة ثلاثي ناتويست.
دعوني أكون واضحاً. إنني لا أؤكد هنا أن الرجال الثلاثة هم أبرياء. لكن كونهم قدموا لائحة جوابية بالإقرار بالذنب لا يثبت أنهم مذنبون. وإنما يمكن أن يثبت بالقدر نفسه أن النظام القضائي الأمريكي توجد فيه آلة قوية لانتزاع الإقرار بالذنب بتهم مخففة. بهذه الطريقة يكون النظام قد قضى تماماً على افتراض البراءة. ولهذا السبب فإنه ليس نظاماً ينبغي على بريطانيا أن تحافظ فيه على الترتيبات الحالية لتسليم المتهمين. على الأقل يجب أن يُطلب من الولايات المتحدة تقديم قضية ظاهرة الوجاهة في البداية. هذه النتيجة هي على هذه الدرجة من البساطة