Saturday, February 9, 2008

رسالة إلى قضاتنا الكرام

رسالة إلى قضاتنا الكرام

معلوم أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما وأوجب العدل وحث عليه ، يقول الله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان) ويقول سبحانه: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ، ويقول جل وعلا: ( ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) ، ويقول سبحانه : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) ويقول سبحانه : ( إن الله يحب المقسطين)، ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة)، ويقول الحكماء إن أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل
الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق ، وإن لم تشترك في إثم ، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ، ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وفي الأثر : (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم.
لكل ذلك وغيره فإني أبعث هذه الرسالة المفتوحة إلى قضاتنا الأفاضل وكافة القضاة في كل مكان من العالم أذكرهم بما أوجبه الله عليهم ، وأدعوهم إلى مناصرة الحق والعدل والوقوف إلى جانب المظلومين ، وذلك من خلال الحقائق التالية:
1-
أمهد بالقول إن التحذير من القضاء ، ورفض السلف لتوليه إنما ذلك للوعيد الشديد لمن ظلم أو كان جاهلا ، أما من كان من أهل العلم والقوة في الحق ، فهو في حقه محمود مطلوب ، يقول النووي –رحمه الله- عند شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم). هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات ولاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها أو كان أهلاً ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط، وأما من كان أهلاً للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث: "سبعة يظلهم الله" والحديث المذكور هنا عقب هذا: "إن المقسطين على منابر من نور" وغير ذلك، وإجماع المسلمين منعقد عليه .
2-
أن الحكمة الأساسية من القضاء هي تحقيق العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها ، وفض المنازعات ، ورد التواثب وقمع الظالم ونصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن هنا عرف القضاء بأنه : الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية ممن كانت له الأهلية في التوقيع عن الله.
كما عرف بأنه : الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام .
وعرف ابن عاصم القاضي بأنه (منفذ بالشرع للأحكام).
وقد أمر الله تعالى نبيه داوود -عليه السلام- بالحكم بالعدل بعد تحذيره من مغبة الحكم بالهوى ، وبين أن ذلك هو الضلال المبين: فقال تعالى : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)،ولا يتصور صدور العدل من غير عدل وقد نص علماؤنا المالكيون –رحمهم الله- على هذه الحكمة حتى يتمكن القاضي من أداء مهمته دون حيف أو ظلم ، يقول ابن عاصم – رحمه الله: (...*وشرطه التكليف والعدالة).
3-
أن من آداب القضاء معرفة حقيقة الدعوى والتمييز بين المدعي والمدعى عليه .
يقول ابن عاصمرحمه الله-: ( والمدعي مطالب بالبينة *...)، وذلك لما رواه البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، يقول النوويرحمه الله - :وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك ولا فرق في هذا أمام القاضي المسلم بين مدع ومدعى عليه ، حتى ولو تعلق الأمر برئيس الدولة ، وقد سجل لنا التاريخ أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنه ضاع له درع فوجده عند يهودي فخاصمه إلى شريح فقال هذا درعي ويشهد عليه ابني الحسن-سيد شباب أهل الجنة- ومولاي فقبل القاضي شهادة المولى ولم يقبل شهادة الحسن لمكانته من علي وحكم بالدرع لليهودي لوضع اليد وعدم اكتمال بينة المدعي ، فما كان من اليهودي إلا أن أسلم لتأثره بما رأى من عدل المسلمين فأهدى له علي-رضي الله عنه- الدرع بعد إسلامه.
يقول ابن القيم – رحمه الله: الحكم نوعان :
1-
إثبات ،ويعتمد الصدق.
2-
إلزام ويعتمد العدل ، قال تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) ولكل واحد من القسمين طرق متعددة يعرف بها ذكر منها ابن القيم 22طريقا. ولا يخلو حال المدعى عليه من ثلاث حالات:
أ- الإقرار. ب-الإنكار. ج-الامتناع.
ولا يجوز حبس المقر ، ولا المنكر مع عدم وجود البينة ، وإنما يجب على القاضي النظر في أمرهما بعدل ثم الحكم بما أوجبه الله عليه حسب البينات .
إذا تبين ذلك فمن هو المدعي ومن المدعى عليه في قضية سجن العلماء والدعاة والمعارضين السياسيين في بلادنا؟ وهل هم مجرمون وما هي جريمتهم ؟
وهل لهم من جرم سوى أنهم أبدوا
معارضتهم لما وقع في بلادنا من إفساد شمل الدين والدنيا وهو أمر يكفله الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية :( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) كما أن الدستور والقانون يكفلان لكل مواطن حق الاعتراض والإبداء ، وينصان على أن البلد مسلم وأهله مسلمون ويكفلان الحريات ، وينصان على أن القضاء مستقل...وأن الرئيس يجب أن يكون مسلما ...إلخ ومعنى ذلك أن يشرف على تطبيق أحكام الإسلام بنفسه ، وأولها العدل بين الناس ، ورفع الظلم عنهم وسهره على ذلك .
والمتتبع للواقع في بلادنا يرى أن كثيرا من أحكام الشريعة عطلت، وانتهكت المحارم وأظهرت المنكرات ، وشاع الفساد الإداري والمحسوبية ،وأقيمت العلاقات المشينة مع أعداء الله ورسوله وأعداء المؤمنين اليهود –لعنهم الله- وغيرت العطلة من يوم الجمعة الذي هدى الله المسلمين إليه وأضل عنه اليهود المغضوب عليهم والنصارى ،لتحول إلى عطلة اليهود والنصارى، وأغلقت المؤسسات والجمعيات الإسلامية ، والمعاهد الدينية ، التي كان يستفيد منها كثير من الناس ،وفتح البلاد على مصارعها أمام المنصرين والمهودين وانتشر الظلم وامتلأت المحاكم بظلم الأفراد مما يمكن أن يورد فيه المتتبع أغلب ما ذكرته كتب القضاء في مسائل الدعاوى من باب الرهن والضمان والبيع والغصب السرقة والنهب والاعتداء على الأموال العامة والخاصة والجراحات والدماء والوكالة والصلح إلى الفرائض وأحكام النكاح والطلاق مما تقع فيه الدعاوى اليومية التي لا تجد في أغلب الأحيان من ينصف المظلومين الضعفاء ، بالإضافة إلى ما يستجد في حياة الناس من أشكال المعاملات التي يجهل تصنيفها أكثر من يعينون باسم القضاء فضلا عن معرفة إلحاقها أو استنباط حكمها أو متابعة ما ذكره العلماء المعاصرون فيها ..وهي كلها أمور يجب تنفيذها بالعدل على الحاكم والحكومة ،والقضاة ركن أساسي من أركان الدولة مما يوجب إيجاد قضاة مؤهلين للحكم في كل ذلك بالعلم والعدالة ثم تتم متابعتهم بشكل دائم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعــدل أقضيت ما علي: قالوا: نعــم، قال: لا؛ حتى أنظر في عملـــه أعمل بما أمرته أم لا .
أليس من الأولى والحال هذه أن يكون السجناء هم المدعون المطالبون بتغير المنكر العام والخاص ، ويجب على جميع القضاة مناصرتهم وتأييدهم؟بل يجب ذلك على الحاكم نفسه لينقذ نفسه وشعبه من هاوية الردى ؟
أم هم مدعى عليهم من قبل الدولة ؟ وما هي تلك الدعوى ؟ إن الدولة تقول إنهم
خالفوا قانون المساجد ، وإنهم يستغلون المساجد للتحريض وأنهم نشروا صور السجناء وفبركوها.
فما هو قانون المساجد ؟ وأي مصداقية له في الشرع والقانون إذا خالف قوله تعــالى : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، وقوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)، وقوله : ( وأن المساجد لله ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). وهذا ما يحتم معرفة المدعي و المدعى عليه في هذه القضية؟ وأي الدعاوى أثبت وأقوى ؟ وإلى أين يجب أن يقف القضاة ؟ بل الشعب كله ؟ بل أنصار الحرية والعدالة في العالم.
4-
إن من أدب القاضي الذي يجب عليه أن يراعيه تقديم الأول فالأول ، والمسافر ، ومن له ظروف خاصة كالمضطر والمريض والسجين ، ومن له مهمة يخشى فواتها ، ثم يقدم المدعي في الكلام ، ويسكت المدعى عليه حتى ينتهي من كلامه ، فإن صحت الدعوى أمر المدعى عليه بالجواب ، يقول ابن عاصم :
وقدم السابق للخصـــــام *.... وحيث خصم حال خصم يدعي *فاصرفه ومن يسبق فذك المدعي وإذا التبس عليه الأمر بحيث لم يستطع أن يتحقق من الدعوى ، أولم يفهم من الخصمين مرادهما ، أو جهل الحكم ففي كل ذلك يجب عليه التوقف عن الحكم وصرف الخصوم دون حبس حتى يجمع العلماء ويستشير ويتبين له الأمر ثم يدعوهم إلى مجلس آخر.
يقول ابن عاصم
:
وليس بالجائز للقاضي إذا * لم يبد وجه الحكم أن ينفذا
فكيف إذا كان القاضي يعلم أن الأحكام المطلوبة منه مخالفة لنصوص
الكتاب والسنة والإجماع ؟!فهل يجوز له أن يتبع هواه؟! ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله). إن على القاضي في مثل هذه الحالة أن يحكم بما أمره الله به من كف الظالم وتبرئة المظلوم بغض النظر عمن هو ،مهما هدد به من فصل أو حبس ، بل يحكم بما يترتب على ذلك من رد المظالم والاعتبارات ، وإلا كان ظالما .
وإذا حرم على القاضي أن يحكم بهواه فيكف يسوغ له أن يحكم بهوى غيره؟ إن ذلك من أقبح الأمور وأسوئها! روى أصحاب السنن من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - وفي رواية - فليحملها أو يذرها) ، وقد وردت أحاديث كثرة تهدد من خالف قولُه وفعلُه علَمه من ذلك : حديث كعب بن مالك –رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: ( من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار(، وحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة(، وحديث ابن عمر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : ( من تعلم علماً لغير الله، أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار).
5-
إن على القضاة أن يتذكروا أن الخصومات ستعاد يوم القيامة ،وأن الأحكام الجائرة التي قضوا بها ستستأنف ، ويعاد الحكم فيها مرة أخرى في ذلك اليوم العظيم يوم الفصل بين يدي أحكم الحاكمين ( يوم لا تظلم نفس شيئا والأمر يومئذ لله).
6-
على القاضي المسلم إذا ابتلي بهذا المنصب أن ينظر في نفسه وهو أعلم بها ، فإن لم يكن من أهل العلم وجب عليه أن يبادر إلى الاستقالة إنقاذا لنفسه من النار حتى لا يضل ويضل لما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِماً اتّخَذَ النّاسُ رُؤُوسَاً جُهّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلّوا وَأَضَلّوا)، و إن كان من أهل العلم والأهلية وجب أن يتحر الصواب ويلجأ إلى الله بسؤال التوفيق والسداد، ويستشير العلماء وأن يحرص على أداء هذه الأمانة العظيمة في رد المظالم والإصلاح بين الناس ، ويكثر من قول : ( اللهم إني أسألك الهدى والسداد) رواه مسلم ونحو ذلك . يقول الإمام أحمد – رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه حتى يكون فيه خمس خصال:
أ?- أن تكون له نية (يعني حسنة)فإن لم تكن له نية لم يكن له نور ولا على كلامه نور. ب?- أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
ت?- أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته.
ث?- الكفاية ( يعني أن يكون غنيا ذا مال) وإلا مضغه الناس ، فإن لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم.
ج?- معرفة الناس حتى لا يلبس عليه الحق بالباطل .
7-
لا ينقض حكم الحاكم إلا إذا خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو القياس الصحيح ، أو القواعد الثابتة. 8- ينقض حكم الحاكم إذا حكم بتفسيق العدل أو تسفيه الرشيد ونحو ذلك مما هو ظاهر لأنه مبني على باطل.
9-
أذكر قضاتنا الأجلاء ببعض مواقف العدل التي ربما تنسى في زحمة التفكير في متاعب الحياة اليومية ، والرواتب والأجور المتدنية مع ما يصاحب ذلك من عدم العناية بهذه المؤسسة المهمة التي يجب أن يغنى أصحابها عن التفكير في كل شيئ ، والذكرى تنفع المؤمنين.
وأختصر ذلك في الأمثلة التالية:
أول ذلك ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حقق العدل ودعا إليه بقوله وفعله واقتص حتى من نفسه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة الكامل والصراط المستقيم ، وقال : ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )، ولا يخفى أنه الرسول والقائد والإمام وهو أعلى سلطة في دولة الإسلام. ثانيا: في العصر الراشدي : وكله أمثلة حية ناطقة بالعدل والإنصاف ، لكني أكتفي بالإشارة؛ فمن ذلك ما قاله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديقرضي الله عنه- في أول خطبة له : الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-فيما كتبه لأحد ولاته وقضاته : وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد ولا في شدة ولا رخاء ، والعدل وإن رؤي لينا فهو أقوى وأطفأ للجور وأقمع للباطل ، وقال في كتابه لأبي موسى-رضي الله عنه- الذي يعد من أقدم الوثائق القضائية التي يمكن أن يسير عليها القضاء في أمة كاملة في جميع شؤونها :أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر .... آسي بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك.... وسبق معنا موقف الإمام علي-رضي الله عنه- مع اليهودي .
ومعلوم أن الخلافة الراشدة كانت في زمن الخلفاء الراشدين الأربعة ، وكانت تمثل أنموذا عاليا في العدل والإنصاف ويكفي في ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاصي ، وظل القضاء الإسلامي رمز الشموخ والرفعة ، وعرف التاريخ أمثلة كثيرة كالقاضي شريح ، وإياس بن معاوية ، العز بن عبد السلام ، وسحنون ،وفي كل بلد من العالم الإسلامي أمثلة كثيرة ، وفي تاريخنا (في بلاد المنارة والرباط )نماذج مشرقة يمكن أن يحدثك كل أحد من أهل العلم والفضل عن بعضها (وتحتاج إلى جمع)ولا زالت بحمد الله – باقية وإن قلت – لا بسبب نقصهم وقلتهم- بل لأن كثيرا ممن يتولون القضاء اليوم ليسوا من أهله بل يحرم عليهم القضاء شرعا لجهلهم بشرع الله ، ويحرم على الأمة السكوت على بقائهم فيه لما يترتب على ذلك من ضرر في الدين والدنيا، ويتولى كبر ذلك من نصبهم للناس أو أبقاهم.
ومن أبرز ما يستحق الإشادة والتقدير من مواقف القضاة المعاصرين- لأنه موقف جديد طالما انتظرته الأمة منذ زمن- موقف قضاة الإستكندرية بمصر الكنانة، بلد عمرو بن العاص ، وجامع الأزهر الشريف ، حيث أعلنوا رفضهم الإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في مصر في سبتمر القادم إلا بشرط أن يكون القضاء مستقلا وطالب أكثر من ألفي قاض في نهاية اجتماع لنادي قضاة مصر حضره حوالي 3000آلاف قاضي باستقلال القضاء ، واستمر النقاش والحوار أربع ساعات ، مما أعاد للقضاء في هذا البلد الإسلامي العريق اعتباره ومجده، وذكر بأيام العز بن عبد السلام الذي حكم ببيع الحكام في قضية مشهورة ونفذ حكمه.
وموقف هؤلاء القضاء يجب أن يتكرر في كل مكان
.
نعم إذا لم يكن القضاة عدولا أحرارا يسيرون في قدمة الأمة ويقولون للظالم (لا)بملء أفواههم فمن سيفعل ذلك؟ إنهم إن لم يفعلوا ذلك يكونون ممن أسهم في إعادة الأمة إلى عصور أوروبا المظلمة عصور محاكم التفتيش تلك المحاكم التي كانت في القرن 13م والتي أعدت لمحاكمة الفكر والرأي وكانت تتجسس بكل الطرق على العلماء والمفكرين بل تقوم بحبسهم وتعذيبهم وتحريقهم ودامت 300سنة ولم توقف إلا في عام 1542م في أوروبا ، وإن تأخرت في اسبانيا حتى عام 1834م ، وكانت السبب المباشر لكثير من الثورات المطالبة برفع الظلم المركب من الحكام ورجال الكنيسة على الناس ، وهو ما يريد الظلمة أن يعيدوه اليوم بهذا التحالف البغيض بين من يسمونهم القضاة والعلماء ممن ليسوا بقضاة ولا علماء ولا يستحقون هذه الألقاب الشريفة العظيمة. وإذا كانت هذه الصورة القاتمة التي حفظها التاريخ للقضاء الأوربي وقعت بسبب الجهل والتعصب وال

No comments:

Post a Comment