Saturday, February 9, 2008

الحساب الجاري ـ طبيعته وآثاره ـ

الحساب الجاري ـ طبيعته وآثاره ـ

الدكتور محمد الشافعي

يرى بعض الفقه أن أصل الحساب الجاري يرجع إلى عادات وأعراف التجار والبنكيين اليونانيين والرومان الذي عرفوا آنذاك مؤسسة تشبه إلى حد ما الحساب الجاري (1) وذلك على الرغم من غياب معلومات دقيقة بخصوص العادات التجارية لهذه الشعوب. فهذا الفقه يذهب إلى القول إن البنكيين في اليونان كانوا يقومون بعدة عمليات خاصة بالإيداع والأداء والتحصيل لصالح حساب زبنائهم، في حين يرفض البعض الآخر هذا الطرح لانعدام معلومات خاصة بهذه الحقبة الزمنية. (2)

وإضافة إلى ما سبق، يرى فريق آخر أنه كانت للرومان محاسبة مستمرة لكل العمليات التي كانوا يقومون بها وأن العمليات لا تختلف في شيء عن عمليات الحساب الجاري، لأن أصحاب الأموال (Argentarius) كانوا يكتبون من جهة بنود الدائنية، ومن جهة بنود المديونية في علاقاتهم مع الزبناء، إلا أن هذه العمليات تكشف أن الرومان كانوا يعرفون فقط مسك دفاتر المحاسبة. فالرومان استعملوا فعلا في علاقتهم التجارية عدة تقنيات تتشابه شيئا ما مع الحساب الجاري، ولكن كل من درس أصل هذه المؤسسة لا يذهب إلى القول إن الحساب الجاري روماني الأصل، بل ظهوره كان مرتبطا في بداية الأمر بالعرف الذي لعب دورا أساسيا في تحديد كيان الحساب الجاري حيث ترتبت هاته التقنية المعرفية من خلال العادات التجارية السائدة بين المصارف وزبنائها، وانتشرت تزامنا مع ظخور الصناعات والتجارة الكبرى، وخاصة في مطلع القرن التاسع عشر حيث أصبح الإنتاج خلال هذا العصر يتزايد بسرعة، كما أن التبادل التجاري انتشر بكثرة، مما أدى بالضرورة إلى إيجاد وسائل اقتصادية وبنكية لتسوية العمليات التجارية، مع تطويره شيئا فشيئا إلى أن بلغ الصورة التي عليها في الوقت الحاضر. وفي هذا الشأن، يمكن القول إن الحساب الجاري خلف من العادات التجارية وبالتالي أصبح مع مرور الزمن نظاما من أدق مواضيع القانون التجاري.

ففي فرنسا مثلا، كان الحساب الجاري معروفا قبل الثورة الفرنسية، لدرجة أن بنك فرنسا كان يسمى في البداية "ببنك الحسابات الجارية" (3). فالقانون التجاري الفرنسي الصادر سنة 1807 لم ينظمه، ولكن الفقرة الثانية من الفصل 575 من هذا القانون والمتعلقة بالوكيل بالعمولة أشارت بصورة عابرة إليه، ولكن هناك عدة نصوص متفرقة تطرقت إليه بصورة مباشرة. فالفصل 33 من القانون الصادر في السنة الحادية عشر للثورة الفرنسية 24 جرمان، عام IX (موافق 14 أبريل 1803) والخاص بالحجز على الحسابات ببنك فرنسا قضى بما يلي: "لا يمكن التعرض على مبالغ الحساب الجاري في الأبناك المرخص لها بذلك"، كما أن الفصل 29 من القانون الصادر بتاريخ 30 دجنبر 1938 ينص على الفوائد الناتجة عن الحساب الجاري تعفى من الضرائب عندما تظهر هذه الفوائد في المداخيل الخاضعة للضريبة على الأرباح التجارية والصناعية والمنجمية والفلاحية. وفي غياب تشريع خاص بالحساب الجاري، حاول الاجتهاد القضائي الفرنسي أكثر من مرة إبراز خصائصه، وابتداء من سنة 1870، بينت عدة قرارات صادرة عن محكمة النقض القواعد الأساسية التي تحكمم الحساب الجاري، الأمر الذي أدى إلى ظهور عدة دراسات فقهية بخصوصه (4)، غير أنه اتضح فيما بعد أنه من الصعب تحديد قواعد خاصة لتنظيم الحساب الجاري. وفي سنة 1934، قامت عصبة الدراسات التشريعية بإعداد مشروع قانون للحساب الجاري حتى لا تبقى قواعده مقتصرة فقط على العرف والعمل القضائي، إلا أن هذا المشروع تعرض لعدة انتقادات فقهية أدت إلى إقباره.(5)

وفي الوقت الراهن، أصبح الحساب الجاري يحتل مكانة هامة في الأنظمة التجارية بعدما ابتدعه التعامل التجاري ووضع له الاجتهاد القضائي أحكامه. فالمشرع تناوله بالتنظيم في عدة دول غربية (6) بعد أن انتشر التعامل به واستقرت قواعده. كذلك نظمت بعض الدول العربية الحساب الجاري وخصصت له عدة نصوص في قوانينها التجارية كما هو الشأن بالنسبة لقانون التجاري الكويتي (7) وقانون التجارة السوري (8) وقانون التجاري اللبناني (9) وقانون التجارة العراقي (10) والمجلة التجارة التونسية (11). فهذه القوانين حددت الوصف القانوني للحساب الجاري وبينت آثاره بصورة عامة، كما تعرضت لكيفية فتح الحساب وغلقه، بالإضافة إلى حكم لديون الناشئة بين طرفي الحساب عند إدراجها فيه والديون المضمونة بتأمين اتفاقي وحالة إيقاع الحجز على الحساب الجاري. وبخلاف هذه القوانين، لم يتناول القانون التجاري المغربي القديم (لسنة 1913) الحساب الجاري، بل أشار إليه ظهير الالتزامات والعقود بصورة عابرة في الفصل 872 بخصوص استحقاق فوائد المبالغ التي تتضمنها الحسابات التجارية، وفي الفصل 873 المتعلق باحتساب هذه الفوائد.

كذلك لم تتطرق مدونة التجارة الحالية إلى الحساب الجاري، غير أن المشروع الأولي لهذه المدونة تنازل لأول مرة الحساب الجاري ضمن العمليات النبكية وخصص له الفصول من 472 إلى 478، ولكن النص النهائي لمدونة التجارة لم يكرس هذا التنظيم، بل تناول الحسابات البنكية في الفصول من 478 إلى 508.

فالمشرع المغربي أخذ بالحساب الجاري في مفهومه الحديث، ولكنه أطلق عليه تسمية الحساب بالاطلاع ولو أنها لا تقبل التطبيق على الحسابات غير البنكية التي يمكن أن يتم فتحها بين مراسلين لأغراضهما التجارية. وبعبارة أدق، إذا كانت تسمية الحساب الجاري قد استبعدت فيما يخص علاقة الأبناك بزبنائها لفائدة تسمية الحساب للاطلاع، فإن ذلك لا يمنع من أن تظل التسمية الأولى متداولة بخصوص الحساب المفتوح بين تاجرين العمليات الدائنة والمدينة التي تتم بينهما.

وعلى ضوء ما ورد في عدة قوانين من أحكام خاصة بالحساب الجاري، سنقوم أولا بتعريفه وطبيعته القانونية (المبحث الأول)، وسنتناول ثانيا الآثار المترتبة عن الحساب الجاري بالنسبة لأطراف العلاقة التي أنشئها (المبحث الثاني).

المبحث الأول

تعريف الحساب الجاري وطبيعته القانونية

قبل تحديد الطبيعة القانون للحساب الجاري، سنقوم بداية بتعريفه

المطلب الأول: تعريف الحساب الجاري

كل التشريعات التي خصصت مكانة للحساب الجاري في نصوصها تتفق تقريبا على تعريفه بأنه الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن يسلم كل منهما الآخر، على دفعات مختلفة، نقودا أو أوراقا تجارية على سبيل التمليك، وتسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع وتكون دينا على القابض دون أن يكون لأي منهما الحق في مطالبة الآخر بما سلمه له في دفعة واحدة، بل يبيح الرصيد النهائي وحده عند إقفال الحساب هو الذين المستحق والواجب الأداء لأحد الطرفين بحسب الأحوال.

يتضح من هذا التعريف أن الحساب الجاري هو عبارة عن عملية الدائنية Créance والمديونية Débit مستمرة بين طرفين (غالبا ما يكون بنكت وزبونه) تتألف بالضرورة من جدولين: أولهما مخصص لقيد الأصول أو الموجودات Avoir، والثاني للخصوم Doit، ويتوحد هذان الجدولان عند غلق الحساب ليستخلص منهما الرصيد Solde المستحق لطرف الذي ظهر لمصلحته، غير أنه قد يكون كل من الطرفين في فترة ما دائنا Créancier وفي أخرى مدينا Débiteur، ولا يمكن أن يكون أحد الأطراف دائنا أو مدينا بصورة دائمة ومستمرة خلال مدة الحساب الذي يكون جاريا بسبب تبادل المدفوعات المتداخلة والمتشابكة ولا بإعطاء كل عملية من العمليات التي تتم بين الطرفين كيانا مستقلا وتسويتها بصورة منفردة، فالحساب يكون جاريا لأنه لا يقتصر على عملية واحدة، بل يتغذى من عمليات كثيرة تتعاقب بسرعة.

فالحساب الجاري يرد عموما على مدفوعات نقدية، ولكن هذا لا يعني أن لا تكون تلك المدفوعات أشياء مثلية كالبضائع والأوراق التجارية، لأنه إذا كانت تلك المدفوعات على شكل بضائع، فإنها لا تدخل بذاتها في الحساب، بل تحتسب على أساس ثمنها وتدخل بهذه الصفة فيه. أما إذا كانت في صورة أوراق تجارية، فلا يتقيد في الحساب إلا بعد تحصيلها أو خصمها، وإذا كان القيد ناتجا عن مبلغ محرر وأكيد ولكن عير مستحق، فإن قيده يجري عادة تحت شرط التحصيل، وفي حالة حصول ذلك يجري القيد العكسي بقيمته. (12)

غير أنه يجب أن تكون الدفوعات التي يسلمها أحد الأطراف على سبيل التمليك، بمعنى أن يكون الدافع قد سلم المال إلى القابض تمليكا وهذا ما نصت عليه صراحة بعض التشريعات العربية حيث قضى كل من قانوني التجارة العراقي (المادة 218) والكويتي )المادة 391) بأن تنتقل ملكية الحقوق والأموال المسلمة والمقيدة دينا لصاحبها في الحساب الجاري إلى الطرف الذي تسلمها. أما إذا كان الهدف من التسليم عكس ذلك ـ كالتسليم على سبيل الوديعة أو الرهن مثلا ـ فلا يمكن اعتبارها مدفوعات وبالتالي لا يجوز قيدها في الحساب.

ويكون عقد فتح الحساب الجاري مدينا إذا أبرم بين غير التجار، وتجاريا إذا أبرم بين التجار، ومختلطا إذا أبرم بين تاجر وغير تاجر، ويترتب على ذلك عدة نتائج بالنسبة لقواعد إثباته حيث يخضع للقواعد العامة إذا كان عقدا مدينا ولحرية الإثبات إذا كان عقدا تجاريا أو أحدهما نسبة إلى صفة الطرف الذي يتمسك به.

كذلك ينتج عن عقد فتح الحساب الجاري التزامات متبادلة على عاتق طرفيه، فيوجب على كل منهما إدخال العمليات التي يجريها مع الآخر في هذا الحساب ودفع الفوائد التي تستحق على مدفوعات الطرف الآخر بالمعدل المتفق عليه وإلا فبالمعدل القانوني.

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للحساب الجاري

بخلاف عدة قوانين، لم ينظم القانون التجاري الفرنسي الحساب الجاري تنظيما محكما، وفي غياب هذا التنظيم درس العديد من الفقهاء الحساب الجاري من عدة زوايا حاولوا من خلال دراساتهم إظهار طبيعته وخصائصه كما فعلوا بالنسبة لعقود البيع والكراء والقرض.

ففي مطلع القرن التاسع، رفض الفقه الفرنسي تصنيف الحساب الجاري من بين عدة عقود، بل اعتبروه فقط خاصة للمحاسبة (13) وعلى غرارهم سار الاجتهاد القضائي (14). فقد كان الفقيه مرلان Merlin في سنة 1825 يرى أن الحساب الجاري يعتبر من الناحية التجارية حالة تاجرين في علاقة أعمال لهما خصوم وأصول متبادلة، في حسن يشكل من الناحية البنكية جدول الكمبيالات والدفوعات المتبادلة بينهما. (15).

كذلك قرب بعض الفقه الحساب الجاري من عدة عقود معروفة، كعقود القرض، والوكالة، والعمولة، والحوالة، والوديعة، (16) يستمد أحكامه من هذه العقود، غير أن التقارب ـ في نظرهم ـ واضح بينه وبين عقد القرض انطلاقا من أن المدفوعات التي يقدمها أحد الأطراف لا تخرج في واقع الأمر عن كونها قرضا للطرف الآخر، فبنود الدائنية والمديونية تشكل في الحقيقة اقتراضا متعاقبا بين الأطراف (17).

غير أنه يمكن تلخيص النتائج التي توصل إليها الفقهاء على الشكل التالي:

1 ـ الحساب الجاري عقد من نوع خاص:

يتزعم هذه الفكرة كل من الفقهيتين دلما رلوبواتفان DELAMARRE et LEPOITVIN (18) والتي سيطرت في فرنسا لمدة طويلة. فحسب هذين الفقيهين، يجب أن لا يختلط عقد الحساب الجاري مع باقي العقود المعروفة في القانون المدني، (كالقرض، والوديعة والحوالة والوكالة) لأن تكوينه يستلزم بالضرورة شروط قانونيا وقواعد خاصة ترتب آثار قانونية تجعله يتميز عن باقي العقود الأخرى، بل لا بد من تخصيص مكانة للحساب الجاري إلى جانب هذه العقود نظرا لخصائصه وآثاره لأن قواعده الخاصة وأحكامه نشأت في ظل العرف المصرفي، كما أن الحساب الجاري وليد الحياة التجارية العصرية وأحد ابتكارات القانون التجاري الحديث.

كذلك يطرح اتجاه فقهي تعليلا آخر لتكريس فكرة العقد من نوع خاص، بأن نية الطرفين في الحساب الجاري هي التي تجعله متميزا عن باقي العقود الأخرى المعروفة، حيث تتجه هذه النية إلى إدخال جميع العمليات الناشئة بين الطرفين، لتفقد ذاتها وتتحول بفعل التجديد إلى مفردات لا يجوز تجزئتها إلى حين انتهاء العقد وقفل الحساب الجاري، غير أن هذه الفكرة قد تعرضت للنقد من طرف الفقه. (19)

2 ـ الحساب الجاري عقد بعوض ملزم للجانبين:

يرى بعض الفقه (20) أن الحساب الجاري عقد ملزم للجانبين لأنه بمجرد انعقاده يلتزم الطرفان بتسوية الديون الناشئة بينهما بموجب الأحكام الخاصة به، أي بعمد الطرفان إلى قيد الديون حسب طبيعتها الدائنة والمدينة في جدول حسابي يعد لفترة زمنية معينة، وبانقضائها تتم تسوية كل هذه الديون نهائية يستخرج منها الرصيد. كذلك يرى هذا الجانب من الفقه أن الحساب الجاري عقد بعوض، لأن كل مدفوع من طرف أحد المراسلين يوازي قرضا ممنوحا للطرف الآخر، غير أنه بالنسبة لبعض الفقهاء فإن التزامات الأطراف يفهم منها أن لا يتعامل هؤلاء خلال مدة الحساب كدائنين بعضهما لبعض، فإمكانية الأطراف لأداء مدفوعات إلى الحساب الجاري يعتبر شرطا ضروريا لوجود هذا الحساب وبالتالي نتيجة لخاصية العقد الملزم لجانبين.

3 ـ الحساب الجاري عقد رضائي:

يرى أنصار النظرية التقليدية (21) أن الحساب الجاري يعتبر عقدا عينيا وليس عقد رضائيا، أي لابد من تقديم المدفوعات حتى نكون بصدد عقد تام؛ فرضاء الأطراف وحده لا يكفي لقيام هذا العقد، بل لابد من تسليم المدفوعات، وليس هناك فترة زمنية طويلة تفصل بين إبرام عقد الحساب الجاري وتقديم أول دفعة، لأنه في إطار الحساب الجاري العادي لا تدخل البنوك غالبا في علاقة مباشرة مع أي زبون إلا بعد تقديم هذا الأخير دفعة نقدية أو ذات قيمة، غير أن فريقا آخر من الفقهاء يرى أن العقد يكون تاما عندما يتفق الأطراف على تسوية ديونهم بموجب حساب جار ويمكن أن يكون هذا الاتفاق صريحا أو ضمنيا. فرضاء الأطراف يكفي وحده لانتقال ملكية غالبا في علاقة مباشرة مع أي زبون إلا بعد تقديم هذا الأخير دفعة نقدية أو ذات قيمة، غير أن فريقا آخر من الفقهاء يرى أن العقد يكون تاما عندما يتفق الأطراف على تسوية ديونهم بموجب حساب جار ويمكن أن يكون هذا الاتفاق صريحا أو ضمنيا. فرضاء الأطراف يكفي وحده لانتقال ملكية المدفوعات ولا داعي لطلبه كل مرة، كما أن هذا الرضاء كاف لانعقاد العقد صحيحا دون حاجة إلى اتباع شكلية معنية

كما هو الشأن بالنسبة للعقود الشكلية ولا تسلم محل العقد حين إبرامه هو الحال بالنسبة لعقود العينية.

4 ـ الحساب الجاري عقد تبعي:

يرى الفقهاء (22) الذين ناقشوا الطبيعة القانونية للحساب الجاري أنه عقد تبعي وترجع خاصية هذه التبعية إلى كون تشغيل الحساب الجاري يخضع للعمليات المستمرة والمتتابعة إلى أن يقوم بها الأطراف بينهم، وعند غيابها ينقطع الحساب الجاري عن الحياة، بمعنى أن الحساب الجاري ذو صفة تبعية يرتبط بالضرورة بتطور العمليات التي أدت إلى إجراء القيم فيه ويتوقف على وجود هذه العمليات المتشابكة.

وعلى الرغم من أن هذا التكييف قد طغى على معظم الأفكار الفقهية في حقبة زمنية معينة، فإنه لا ينبني على أسا، لأنه إذا كان صحيحا أن العمليات المتتابعة والمسترسلة تؤدي إلى إجراء القيد في الحساب وعليها يتوقف وجود هذا الأخير، فإن هذا لا يعني تلاشي الصبغة "العقدية" للحساب في عمليات الأطراف المتوالية التي تنتج عنها علاقة الدائنية والمديونية المستمرة بينهم، فهذه العمليات لا تتوالى إلى بعد نشوء العلاقة التعاقدية بين طرفي الحساب' الشيء الذي يؤدي إلى رفض صفة تبعية الحساب الجاري للعمليات المرتبطة به، بل هناك ارتباط وثيق وليس علاقة تبعية بين الحساب كعقد وعمليات الحساب. واعتمادا على هذا التحليل، يمكن تكييف الحساب الجاري بأنه عقد قانوني مستقل وقائم بذاته وليس طريق من طرق تسوية الحسابات.(23

5 ـ الحساب الجاري عقد محدد:

اختلف الفقهاء في اعتبار الحساب عقد معاوضة. فهناك من يرى أن الحساب الجاري عقد غرر لأن الأطراف لا يعرفون بداية انعقاده ما سيكون لهم مستقبلا، غير أن بعض الفقه قاوم هذه الفكرة مبررا موقفه بأن الاختلاف بين عقدي الحساب الجاري والغرر يكمن في عامل الغرر الذي يكون في العقد الثاني ولا يقوم في الأول. فالفصل 1964 من القانون المددني الفرنسي أعطى أربعة أمثلة لعقود الغرر: عقد التأمين وعقد الرهان والقمار وعقد الإيراد العمري وعقد القرض البحري (محله أشياء معرضة لأخطار البحر)، ويظهر جليا أن عامل الغرر متوفر فقط في هذه العقود المنصوص عليها صراحة في القانون المدني دون عقد الحساب الجاري الذي يقتصر على مدفوعات محددة باتفاق الأطراف.

ويرى أصحاب هذه النظرية (24) أن الحساب الجاري عقد معاوضة لأن كل الأطراف في عقد الحساب تحصل على معادلة محددة لما دفعته عند تبادل القيم فيما بينها وهذه المعادلة تشكل ائتمانا.

يتضح من خلال دراسة مختلف هذه النظريات الفقهية الفرنسية، أن الحساب الجاري لم يأخذ مؤسسة قانونية مستقلة بذاتها وأن آثاره أصبحت في الواقع متداخلة مع العلاقات المعقدة القائمة بين التجار (إرسال الأموال، تظهير الأوراق التجارية..)، وظلت هذه النظريات تسيطر فعلا على الفقه لمدة طويلة في فرنسا.

فالحساب الجاري لا يعتبر من عمليات الأبناك بالضرورة أو بطبيعته، بل يعتبر عقدا تجاريا، نشأ في أصله بعيدا عن النظام ارتباطا وثيقا، حتى اصبح الحساب الجاري من الناحية العملية يفتح غالبا بين الأبناك وزبنائها التجار، أي أن الحساب الجاري اصبح وجوده يتصور أكثر فأكثر داخل النطاق البنكي وبالتالي متجها لأن يكون من العمليات البنكية، الأمر الذي أدى إلى الاختلاف بين العديد من التشريعات التجارية وخاصة في تحديد المكانة التي يحتلها بين موضوعات قانون التجارة. فهناك قوانين عالجت الحساب الجاري ضمن عمليات الأبناك، كقانون التجاري الكويتي، وقوانين أخرى وضعته ضمن العقود التجارية، كما فعل كل من قانوني التجارية العراقي واللبناني وكذا قانون التجارة السوري.

أما المجلة التجارية التونسية، فقد تطرقت إلى الحساب الجاري بكل استقلالية عن معاملات الأبناك ولكن ضمن الكتاب الخامس بالعقود التجاري (الباب التاسع ـ الفصول من 728 إلى 742).

المبحث الثاني

آثار الحساب الجاري

يقوم الحساب الجاري أساس على إمكانية مل من المراسلين في تقديم المدفوعات. فبالنسبة لجميع الفقهاء ـ ماعدا بواتيل Boistel ـ (25) يصبح قابض هذه المدفوعات مالكا لها وذلك على الرغم من أن الأطراف لم تتفق على السند الناقل لهذه الملكية وعلى المكانة التي يحتلها هذا الانتقال في إطار الحساب الجاري. وفي هذا الصدد، يرى بعض الفقه أن انتقال ملكية الدفعات هو وجود عقد الحساب الجاري لأنه هو الذي يبرز إرادة الأطراف التي يجعلها التسليم تامة ونافذة. فمبدأ انتقال ملكية المدفوعات هو الأثر المباشر والأساسي للحساب الجاري لأنه يمنح القابض حق التصرف في المدفوعات (26)، بمعنى أن من يقدم مدفوعا في الحساب الجاري يتلقى عنه مقابلا حيث تقيد قيمة هذا المدفوع في الجانب الدائن لأنه يصبح دائنا للطرف الآخر بهذه القيمة، في حين تقيد نفس القيمة في الجانب المدين للطرف الآخر (أي القابض) لأنه مدين بها، نظرا لتملكه للمدفوع خلال فترة تشغيل الحساب ويكون ذلك القيد في الجانب الدائن للدافع ائتمانا مقابلا للمدفوع الذي تملكه القابض.

ويترتب على تملك القابض للمدفوع بعض الآثار منها حق القابض في التصرف بالمدفوع كيفما يشاء، فلا يعتبر مبددا ولا مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة إذا تصرف بالمدفوع للغير قرضا أو رهنا.. إلى غير ذلك من التصرفات، كما يترتب على تملك القابض للمدفوع وتحمل هلاكه لأي سبب من الأسباب استنادا إلى القاعدة التي تقضي بأن هلاك الشيء يقع على مالكه.

وبالإضافة إلى هذا الأثر، يرى الفقه والاجتهاد القضائي في فرنسا أن المدفوعات تفقد ذاتيتها بمجرد دخولها الحساب، أي هناك تحويل في مجرى الحساب، مما أدى إلى ظهور اثرين: أولهما التجديد وثانيهما عدم التجزئة ولكن دون أن ينجح أصحاب النظرية التقليدية في التفرقة بينهما بصفة واضحة ودقيقة.

المطلب الأول: تجديد المدفوعات

سنبين أولا الاختلاف الفقهي بخصوص هذه المسألة، وسنتناول ثانيا الآثار المترتبة عن التجديد في إطار الحساب الجاري.

أولا: الاختلاف الفقهي حول أثر التجديد:

يرى أنصار النظرية التقليدية للحساب الجاري (27) أن التجديد يحدث بمجرد تسجيل المدفوعات في الحساب. فالمدفوعات التي تدخل في الحساب تعوض ببنود فيه وتندمج كلها في وحدة لا تتجزأ وتشكل أحد أركان الرصيد النهائي. فبمجرد دخول المدفوع في الحساب الجاري، فإنه يتحول من دين مستقل له كيانه الذاتي إلى مجرد بند في هذا الحساب لا ذاتية له ولا استقلال، أي أن هناك تجديدا بسبب تحويل المدفوع إلى البند، وهذا التجديد ينتج صراحة من عقد لأنه لا يمكن للدافع أن يحتفظ في آن واحد بالدائنية والمديونية المسجلة في الحساب، فالتجديد هو الأثر المباشر للحساب الجاري (28). فإذا كان مثلا المدفوع في الأصل من طبيعة مدنية وأدرج في حساب جاري من طبيعة تجارية، اكتسب منذ قيده الصفة التجارية تبعا لطبية الحساب الجاري الذي أدرج فيه والعكس صحيح.

وعلى غرار أنصار النظرية التقليدية، سارت محكمة النقض الفرنسية (29).

يستنتج من مبدأ التجديد في الحساب الجاري أو الدائنية اللأصلية تختفي مع ضماناتها الشخصية والعينية (30)، بمعنى أن تحويل المدفوعات إلى بنود يؤدي إلى فقدان كل التأمينات العينية والشخصية التي تتمتع بها المدفوعات قبل تسجيلها في الحساب، غير أن التجديد لا يفترض، بل لابد من أن يعبر الأطراف عن نيتهم في ذلك صراحة طبقا لما ينص عليه القانون المدني (31)، ولكن أين يوجد هذه النية في إطار الحساب الجاري؟

أثارت هذه المسألة جدلا فقهيا حادا ف فرنسا، فأغلبية الفقهاء (32) ترى أن إرادة التجديد تنتج مباشرة من دخول المدفوعات في الحساب وتحولها إلى بنود فالفقيه إيسمان ESMEIN يستبعد فكرة التجديد في الحساب الجاري ويعترها مؤسسة خاصة بالقانون الروماني الذي كان سائدا في فرنسا واندثر شيئا فشيئا لصالح القانون الفرنسي الحديث. فهذا الفقيه يرفض إطلاقا الفكرة التي تفترض نية التجديد لدى الأطراف في الحساب الجاري كلما انقلبت المدفوعات إلى بنود في هذا الحساب (33).

ثانيا: الآثار الناتجة عن التجديد:

يعتبر التجديد وسيلة لانقضاء الالتزامات، بمعنى أن كل الالتزامات اللصيقة بالمدفوعات تندثر عندما تدخل في الحساب الجاري. وفي هذا الشأن، أثار انقضاء التأمينات أو الضمانات الشخصية والعينية عن طريق التجديد عدة مناقشات فقهية.

فأغلبية الفقه ترى أن هذه الضمانات تبعية، أي أنها تكون أصلا للدائنية ولكنها تنقضي بدورها عندما تنقضي هذه الأخيرة اعتمادا على الفصلين 1278 و 1279 من القانون المدني (34) اللذين ينصان على أن الضمانات العينية والشخصية المتصلة بالالتزام القديم تنقضي بالتجديد إذا اتفق الأطراف على ذلك صراحة، وبما أن الدائنية تفقد ذاتيتها بمجرد دخولها في الحساب الجاري، يقر الفقهاء في هذه الحالة ببقاء الضمانات لصالح الرصيد.

وعلى غرار الفقه، سار الاجتهاد القضائي الفرنسي حيث قضى بانقضاء الضمانات الشخصية والعينية للدائنية في الحساب بسبب التجديد، ماعدا إذا كان هناك اتفاق صريح أو ضمني للأطراف يقضي بقاء هذه الضمانات قائمة لفائدة الرصيد. (35)

مما سبق يتجلى أن بعض الفقهاء أخذوا بالأثر التجديدي للحساب الجاري بدون أن يبينوا الركائز التي اعتمدوا عليها في ذلك. فهناك من يرى بأنه "تجديد من نوع خاص" (36) أو "نوع من التجديد" (37) أو "شبه تجديد" (38)، غير أن فريقا آخر رفض هذا الأثر واعتمد فقط على انقضاء الضمانات اللصيقة بالدائنية كدليل أساسي لرفضه، كما أن المحاكم بدأت تطعن في هذا الأثر ابتداء من سنة 1875 (39) مع نوع من التردد، وفي ظرف سنة تقريبا، صدر عن محكمة النقض قراران تقضي في الأول بأن تسجيل المدفوعات في الحساب الجاري لا يؤدي بالضرورة إلى التجديد (40)، وتقر في القرار الثاني وجود هذا التجديد ماعدا إذا اتفق الأطراف على خلاف ذلك (41).

المطلب الثاني: عدم تجزئة الحساب الجاري:

يعني هذا الأثر أن الحساب الجاري يتكون من مجموع المدفوعات خلال تشغيله ولا يمكن تجزئتها ولا قسمتها لأن هذه المدفوعات أصبحت تشكل ذاتية واحدة غير قابلة للانقسام إلى أن يتوقف الحساب بصفة نهائية (42). فخلال تشغيل الحساب الجاري، لا توجد دائنية ولا مديونية وإنما تشكل جميع المدفوعات وحدة متماسكة قائمة بذاتها، فالمدفوع في الحساب الجاري لا يعيش منعزلا أو منفردا، بل ممتزجا مع غيره من البنود داخل الحساب حتى يحين موعد قفله فيشارك معها في تكوين الرصيد النهائي، ولذا سندرس أولا موقف الفقه من مبدأ عدم تجزئة الحساب الجاري وسنتطرق ثانيا إلى موقف القضاء بخصوص هذه المسألة.

أولا: موقف الفقه:

يلعب مبدأ عدم تجزئة الحساب الجاري دوره بمجرد دخول المدفوعات في الحساب، أي في ذات الوقت مع مبدأ التجديد، ولهذا غالبا ما يدرس هذان المبدآن في آن واحد. فالفقيه بواتيل BOISTEL (43) يرى أن التجديد ينتج عن عدم تجزئة الحساب ولو أن هذين المبدأين هما في واقع الأمر شكلان مختلفان لنفس الفكرة. لقد ظهرت نظرية عدم تجزئة الحساب الجاري لأول مرة عند الفقيهين دولمار ولوبواتفن MARRE ET LEPOITEVIDELA (44) وتنازلها من بعدهما عدة فقهاء (45)، كما أن القضاء الفرنسي تطرق إليها لأول مرة سنة 1852 (46). وفي هذا الشأن، يقول الفقيه فيتو FEITU (47) إن كل المدفوعات في الحساب الجاري متداخلة بعضها ببعض، وبما أن هناك حركات مستمرة في العمليات وأن المدفوعات تتعاقب وتتشابك فيما بينها، فلا يمكن بالضبط معرفة من هو الدائن والمدين، بل يجب وقف الحساب والقيام بمحاسبة ما للأطراف وما عليهم للتوصل في آخر المطاف إلى معرفة المدين والدائن، ولكن لا يمكن القول إن هناك دائنية أو مديونية ما دام الحساب جاريا وإنما اختلاط كل المدفوعات وتشابك بعضها ببعض (48). وعلى منوال هذا الفقيه، سارت محكمة النقض الفرنسية حيث قضت بما يلي: "وبما أن عمليات الحساب الجاري تتعاقب حتى التسوية النهائية للحساب، فإن هذا الأخير يشكل كلا لا يقبل التجزئة وبالتالي لا يمكن تشتيته طالما كان جاريا لأنه ليس هناك دائنية ولا مديونية." (49)

وظل كل من الفقه والاجتهاد القضائي في فرنسا يكرسان نظرية عدم تجزئة الحساب الجاري حتى القرن 20 حيث تعرض فيما بعض للنقد من طرف بعض الفقه الذي يرى أن المدفوعات التي تدخل في الحساب الجاري لا تحافظ على وجودها الشخصي فحسب، بل تبقى أكثر من ذلك مستحقة (50)، ومن الآثار المترتبة على مبدأ عدم تجزئة الحساب الجاري عدم التوفر على بنود ومقاصتها مع دين خارجي عن الحساب قبل أن يكون الرصيد النهائي معروفا (51).

وصد طرف هذا المبدأ عدة تساؤلات من بينها: هل يمكن للدائن أحد المراسلين أن يحجز الدائنية الداخلة في الوقت الذي يكون الحساب جاريا؟

بخصوص هذه المسألة، اختلف الفقهاء في فرنسا (52). فأنصار نظرية عدم تجزئة الحساب الجاري لا تعترف للغير بالحق في حجز الدائنية خلال تشغيل الحساب ولا الرصيد الحالي، ويرجع إلى عدم وجود دائنية واستحالة وقف الحساب مؤقتا خلال تشغيله لتحديد من هو الدائن والمدين من المراسلين، فلا يمكن لدائن أحدهما أن يقوم بالحجز إلا على الرصيد المحتمل بعد قفل الحساب نهائيا. (53).

ولتبرير موقفهم، اعتمد أنصار هذه النظرية على الفصل 33 من قانون 24 جيرمنال، عام XI (موافق 14 أبريل 1803) الذي يمنع الاعتراض على مبالغ الحساب الجاري في الأبناك المرخص لها بذلك، غير أن مبدأ حجز الدائنية في الحساب الجاري قد تعرض للنقد لأول مرة من طرف الفقيه هامل HAMEL ولو أنه يقر بمبدأ عدم تجزئة الحساب الجاري واعتمد في ذلك على العمل اليومي للأبناك وحاجيات التجاري التي تتطلب وقف الحساب مؤقتا خلال تشغيله حتى يتمكن الغير من الحجز على الرصيد الحالي للحساب وخاصة إذا تبين أن المدين استعمال الحساب الجاري لمدة غير محددة وتوخى من خلال ذلك غش دائنيه وتهرب أمواله من ملاحقتهم عن طريق إدراجها كبنود في الحساب الجاري، وفي هذه الحالة، يجوز الحجز على رصيد الحساب المؤقت.

ثانيا: موقف القضاء

على منوال أنصار مبدأ عدم تجزئة الحساب الجاري، سارت بعض المحاكم الفرنسية وعلى رأسها محكمة النقض حيث قضت بأن المدفوعات تتحول إلى بنود بمجرد تسجيلها بالحساب وبالتالي تفقد ذاتيتها، فليس هناك دائنية ولا مديونية مادام الحساب جاريا وتبقى صفة الدائن والمدين معلقة (54) إلى حين إقفال الحساب نهائيا. واعتمادا على ما أقرته المحاكم، يمكن استنتاج ما يلي:

استحالة الحجز على الرصيد قبل إقفال الحساب نهائيا. (55).

استحالة المقاصة خلال تشغيل الحساب (56)، بخلاف ما يجري عليه العمل في إطار الفصل 1291 من القانون المدني، فلا يجوز المقاصة بين بند وبند مدين وإنما تكون المقاصة بين مجموع البنود الدائنة ومجموع البنود المدينة عند قفل الحساب لأن المقاصة عملية وفاء واستيفاء، وهذه العملية لا يمكن إجراؤها إلا إجماليا لكل المدفوعات حين قفل الحساب ولمرة واحدة لا انفراديا لبعض المدفوعات دون غيرها (57).

استحالة الموافقة على مؤونة في الرصيد المؤقت لحساب غير مغلق. (58)

استحالة تطبيق التقادم على المدفوعات مادام الحساب جاريا (59)، ولكن بعد إقفاله، يصبح الرصيد النهائي قابلا للأداء وبالتالي يخضع للقواعد العامة بخصوص الحجز والتقادم.

غير أن القضاء تراجع عن مبدأ تجزئة الحساب الجاري حيث قضت محكمة النقض الفرنسية بأن هذا المبدأ غير لازم للأغيار بعلة أنهم لم يشاركوا في العقد وبالتالي يحق لهم طلب استخراج بند من بنود الحساب، إذا كان قيده قد مس بحقوقهم، كما أنها قضت بموجب القرار المبدأ الصادر بتاريخ 13 نونبر 1973 (62)، بالإضافة إلى أن قانون 9 يوليوز 1991 الخاص بتعديل مسطرة التنفيذ جاء لتحديد كيفية الحجز على الحساب الجاري.(63).

وعلى غرار المبادئ التقليدية والحديثة التي أقرها كل من الفقه والاجتهاد القضائي في فرنسا. سارت كل القوانين العربة التي نظمت الحساب الجاري حيث قضت قابليته للتجزئة بمجرد دخول المدفوعات فيه لأنها تفقد ذاتيتها وكيانها واستقلالها لتصبح بندا في الحساب الجاري غير قابل لتجزئة. فالمادة 347 من القانون التجاري اليمني تقضي صراحة بأن : "الديون المترتبة على أحد الطرفين، إذا أدخلت في الحساب الجاري فقدت صفاتها الخاصة وكيانها الذاتي، فلا تكون بعد ذلك قابلة على حدة للوفاء وللمقاصة ولا للسقوط ولا للتقاضي ولا لطريقة من طرق التنفيذ، وتزول التأمينات الشخصية والعينية المتصلة بالديون التي أدخلت في الحساب الجاري، ما لم يكن هناك اتفاق مخالف"، وتنص أيضا المادة 304 من قانون التجارة اللبناني على ما يلي: "لا يعد أحد الفريقين دائنا ولا مدينا للفريق الآخر قبل ختام الحساب الجاري، فإن إيقاف هذا الحساب هو وحده الذي يحدد حالة العلاقات القانونية بينهما وهو الذي تنشأ عنه حتما المقاصة الإجمالية لجميع بنود الحساب من تسليف واستلاف وهو الذي يعين الدائن والمدين". كذلك تقضي المادة 221 من قانون التجارة العراقي بأن "المفردات المقيدة في الحساب الجاري بمجموعها لا تقبل التجزئة قبل قفل الحساب الرصيد..." (64)

فما هي إذن آثار قاعدة عدم التجزئة بالنسبة للغير ؟ أو بعبارة أخرى، هل يحق لدائني أحد الطرفين أن يحجزوا على رصيد الحساب الجاري الدائن لمصلحة مدينهم قبل إقفال الحساب؟

بالرجوع إلى أغلب القوانين العربية التي نظمت الحساب الجاري، نجدها تقضي بأن قاعدة عدم التجزئة تحول دون ممارسة هذا الحق، ولكن بعد إقفال الحساب الجاري، يصبح رصيده كأي مال خاضع للقواعد العامة وبالتالي قابلا للحجز. فالمادة 349 من القانون التجاري اليمني تقضي صراحة بأن "... والحجز الذي يوقع على نقود وأموال داخل في الحساب الجاري لا ينفذ إلا بالنسبة للرصيد الذي يظهر لمصلحة المحجوز عليه عند إقفال الحساب".. أما في لبنان، فلا يجوز الحجز على الحساب الجاري لدى المصرف عملا بقانون سرية المصارف الصادر في 3 أيلول 1956 والذي تنص المادة الرابعة منه عل عدم جواز الحجز على الأموال المودعة لدى المصارف إلا بإذن خطي من أصحابها.

وبخلاف هذه القوانين، تقضي المادة 235 من القانون العراقي والمادة 298/2 من قانون التجارة الكويتي بأن يجوز أحد طرفي الحساب الجاري توقيع حجز على ما للمدين من رصيد دائن لدى الغير وقت توقيع الحجز.

أستاذ التعليم العالي كلية الحقوق مراكش

الهوامش:

1)انظر:

DA، des argentarri en droit romain. Du contrat de compte

en droit français، thèse Paris 1877 ; GAZANIOL، opérations et procédés de la banque romaine، Toulouse 1894 ; CLEMENT، étude sur le compte courant، 1898.

CAILLEMER، étude sur les antiquités juridiques

2) انظر

d'Athènes، Revue ecrique، Tome XXVII، Paris 1865، p : 64.

3)أصبح يسمى ببنك فرنسا منذ 1803.

4)انظر بالخصوص:

GAZANIOL، le compte courant، thèse Toulouse 1894 ; NICOLAESCO، le compte courant، thèse Paris 1933 ; CORNET، le compte courant، thèse Paris 19345 ; Le compte courant، thèse Paris 1935.

5)انظر:

Hamel، Rapport à la société d'Etudes législatives، Bulletin de la société d'études législatives 1934 p : 258.

6)القانون الألماني (الفصول من 355 إلى 357) والقانون الإيطالي (الفصول من 1823 إلى 1833) والقانون البرتغالي (الفصول من 345 إلى 368).

7)المواد من 366 إلى 404.

8) المواد من 393 إلى 401.

9) المواد من 298 إلى 306.

10)المواد من 217 إلى 238.

11)المواد من 728 إلى 742.

كذلك نظم الحساب الجاري كل من قانون التجارة الأردني (المواد من 106 إلى 106) والقانون التجاري اليمني.

12)انظر:

RIVES-LANGE، la liberté des covetios et la contre-passation avant clôture du compte courant، J.C.P 1965، I. 1889.

13)انظر:

DIETZ، des comptes courants، thèse Paris 1869، p : 58

ALAUZET، commentaire de code de commerce، Paris، Tome I P : 138.

14)انظر:

Cour de Paris، 25 Mai 1862، Journal du Palais 1865-1071.

15)انظر:

MERLIN، Répertoire du Jurisprudence ، Paris 1825.

16)انظر:

Masse، le droit commercial dans ses rapports avec le droit des gens et le droit civil، Tome IV، n 227.

17)انظر:

NOBLET، Du compte courant، 1848 p : 7.

18)انظر:

DELAMARRE et LEPOITVI، Traité théorique et pratique de droit commercial، Paris 1861 n 320.

19)انظر:

ZAMFIRESCO، contribution à l'étude du contrat de compte courant en droit comparé، thèse Paris p : 25.

20)انظر:

BEVIERRE، de la nature juridique du compte courant، thèse Lille 1933، p : 20.

21)انظر:

DELAMARRE et LEPOITVI، Traité théorique OP.Cit n 322 FEITU Traité du compte courant، Paris

1873 n 64.

22)انظر:

LYON-CAEN et RENAULT، Traité droit commercial، Paris 1925 n 795 ;

LACOUR et BOUTRON، précis de doit commercial، Paris 1925 n 1474 ;

Thèse CHAVANNES، Essai sur la nature juridique du compte courant، LAUSANNE. 1908.

23)انظر في هذا الصدد:

RIVES-LANGE، le compte courant en droit français، Thèse Paris 1964.

25)يرى هذا الفقيه أنه يمكن أن يكون هناك مدفوعات بدون انتقال ملكيتها إلى القابض الذي يكون حرا في التصرف فيها بمجرد وكالة عادية، انظر

BOISTEL، cours de droit commercial، Paris 1890 p : 622.

26)انظر

FEITU، Op.cit n 114.

27)انظر:

FEITU، Op.cit n 199 à 232 ; Lyon-Caen، Tome IV ، 823.

28)انظر:

FEITU، Op.cit n 202 ; Lyon-Caen، op.cit n 823.

29)انظر:

Cass. Civ. 25 Avril 1910. I. 265 ; Civ. 12 Juin 1936. G.P. 1936. 411، G.P. 1936.2.422.

30)انظر:

ROUEN، 18 décembre 1856، D. 1857.2.157 ; Cass، 12 Juin 1936، D.H. 1936.411 ; Cass. Com. 10 Juin، 1949، J.P.C. 1949.2.5106.

31)الفصل 1273 من القانون المدني

32)انظر:

FEITU، Op.cit n 206 ; Lyon-Caen، Op.cit ; HAMEL Banque et opérations de banque، Paris 1933 Tomme I، n 365.

33)انظر:

ESMAIN، Essai sur la nature juridique du compte courant، RTD. Civ 1920. p. 85.

34)انظر:

FEITU، Op. Cit. n 224 ; Boistel، Op. Cit n 885 ; HAMEL n 366.

35)

Req.15 Décembre 1897، S. 1899. 1393 ; Montpellier، 16 Juin 1926، S. 1929، Som. 337، Cass. 25 Avril 1910، journal du palais 1913 p. 265 ; Cass. 12 Juin 1936، D.H. 1936، D.H p 411 ; Cass. 10 Juin 1949، journal du Palais 1950. 1. p. 78.

36)انظر:

FEITU، Op.cit. p 271.

37)انظر:

LYON-CAEN، n 823.

38)انظر:

LACON et BOUTERON، Précis de droit civil، 2 édit. Paris 1921 n 1492.

39)انظر:

Req. 16 mars 1857 D. 1857.1.1347 ; Civ. 29 novembre 1871، S. 1972 p : 780 ; Cass. 29 Juillet 1935، D.H. 1936.21.

40)انظر:

Req. 29 Juillet 1935، D.H. 1936، 21، 1935.1.387.

41)انظر:

Civ. 12 Juin 1936.، D.H. 1936. 411.

42)انظر:

COMET، la novation et l'indivisibilité dans le compte courant، thèse Paris 1934 ;

DUPONT، de la novation et l'indivisibilité en matière de compte courant، thèse Paris. 1910.

43)انظر:

BOUSTEL، Op.cit. n 883.

44)DELAMARRE et LEPOITVIN، Op.cit. Tome III، p : 241.

45)انظر:

CHOLAT، le compte courant، étude critique de la théorie de l'indivisibilité et de la novation، thèse Lyon 1927 ; VAHEDI، les effets juridiques du compte courant، thèse Genève 1954.

46)انظر

Cour d'appel de Paris، 21 décembre 1855.2.252

47) FEITU، Op.cit n 233.

48)انظر:

Req. 15 décembre 1897، S. 1899.1.393 ; Cass. 16 décembre 1918، D.P. 1922.1.167.

49)انظر:

ESMAIN، Op.cit. p. 79.

50)انظر:

NICOLAESCO ; la compensation et le compte courant، thèse Paris 1920.

51)انظر:

FEITU، Op.cit. n 245 ; Lyo،-Caen، Op.Cit n 828، BOISTEL، Op.cit. n 884.

52)انظر: شبيب، الجوانب القانونية للحساب الجاري، رسالة دبلوم الدراسات العليا، كلية الحقوق، مراكش، 1993-1994.

53)انظر:

Piret، le recul du principe de l'indivisibilité de la dette en compte courant dans son conflit avec les droits des tiers، R.T.D.com.

1939.601 ; COMET، la novation et l'indivisibilité dans le compte courant، 1934 ;

BASTIAN، l'indivisibilité du compte courant، J.C.P. 1940 n 178.

54)انظر:

Civ. 10 mai 1865، D.P. 1865.1.230 ; 6 Mai 1868، D.P. 1865.1.230 ; 6 Mai 1868، D.P. 1868. 316 ; 22 Avril 1884، S. 1884.1.409 ; 24 Juin 1903، D.p.

1903.1.472، S. 1904.1.220 ; Req. 10 Mars 1926، D.H. 1926.

55)انظر:

Civ. 23 janvier 1922، D.P. 1925.1.72 ; S. 1923.1.213 ; D.H. 1931.100.

56)انظر:

C.A. Paris، 5 Mars 1953، Cass. 24 Juin 1903، D. 1903.1.472 R.T.D. Com. 1953. p. 314.

57)انظر:

Paris، 21 Mars 1920، GP. 1921.1.74.

58)انظر:

Civ. 10 Janvier 1872، D.P. 1872.1.102 ; Chambery، 3 Mars 1891، D.P. 1892.2.334 ; Nancy، 6 mars 1906، D.P. 1908.2.334 ; Cass. Com. 22 décembre 1981، D. 1982. IR. 338.

59)انظر:

Cass. Civ. 25 Juin 1985، D. 1985، D. 1986. IR. 317 ; Cass. Com. 28 October 1986، D. 1986. 592.

60)انظر:

Cass. Com. 13 Novembre 1973 1973، G.P. 1974.1.154، R.T.D. com. 1974 p. 130.

61)انظر:

RIVES-LANGE، La saisissabilité du compte courant، D. 1974. chronique. 101.

62)بخصوص تطبيق هذا المبدأ على الحساب الجاري البريدي انظر:

Cass. Civ. 20 Avril 1983، G.P. 1983.2.Pan. 272، D.S. 1984. IR.78.

63)انظر:

EMMAUEL PUTMAN ; Droit des affaires، Moyens de paiement et de crédit، P.U.F. paris 1995 P. 215 ; George Ripert-Rée ROBOT، Traité de droit commercial، Tomme II، 15ème édition، L.G.D.J. Paris 1996 p. n 2343، Croze، Saisie-attribution bancaire، Petites Affiches، 6 428 Janvier 1993 n 3 p. 70.

64)تقابلها المادة 399 من قانون التجارة السوري والمادة 112 من قانون التجاري الأردني والمادة 733 من المجلة التجارية التونسية والمادة 398/1 من قانون التجارة الكويتي.

No comments:

Post a Comment