Sunday, January 27, 2008

الإعجاز التشريعي في مكافحة الجريمــة

الإعجاز التشريعي في مكافحة الجريمــة
د . منصور
رحمانـي
جامعة سكيكدة
-الجزائر
لا ينسب
النجاح إلى أي تشريع فيما وضع لأجله إلا إذا تحققت فيه أربعة عناصر، أولها أن يؤدي الغرض الذي وضع من أجله، وثانيها أن يتم له ذلك في أقل زمن، وثالثها أن يكون ذلك الغرض قد تحقق بأقل ما يمكن من التكاليف، وآخرها ألا تكون سلبياته أكثر من إيجابياته، فإذا انعدم عنصر واحد من هذه العناصر لم يكن التشريع ناجحا ولا فعالا في ما وضع من أجله، وفي موضوع مكافحة الجريمة فإن النجاح مرهون بالتقليل من نسب الجريمة في زمن قياسي مع اجتناب التكاليف الباهضة والإفرازات السلبية التي تخلفها عملية المكافحة.
ومن خلال دراساتي المتعددة لأنظمة التجريم والعقاب من العصور
البدائية إلى اليوم(1) لم أجد هذه العناصر الأربعة قد تحققت كلها ولا حتى نصفها إلا في تشريع واحد هو التشريع الذي جاء به القرآن الكريم في ميدان مكافحة الجريمة، والموجود في نصوص القرآن، والمبين في السنة الشريفة، والمفسر في أقوال الصحابة الكرام وتطبيقاتهم وأقوال العلماء من بعدهم . ورب سائل عن حقيقة توفر هذه العناصر في التشريع القرآني ومدى تفرده في ذلك، وسوف أقدم بيانا بذلك من ما يلي :
أولا
: نجاح التشريع القرآني في مكافحة الجريمة في زمن يسير:
إن أصدق ما يدل على نجاح
هذا التشريع في مكافحة الجريمة هو ما تسفر عنه المقارنة بين حال الجريمة في المجتمع العربي قبل الإسلام وما أصبحت عليه بعده بزمن يسير، فعندما نزل القرآن الكريم على العرب كانت الجريمة فيهم هي الأصل، فكانت الأوثان تعبد، والأرحام تقطع، والأموال تنهب، والأرواح تزهق، والغزوات على قدم وساق، ولعل أوجز ما يعبر عن حالهم هو قول شاعرهم وحكيمهم زهير ابن أبي سلمى :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم
الناس يظلم
ولم يلبث نزول الوحي فيهم إلا ثلاثا وعشرين عاما حتى تغير حالهم من
النقيض إلى النقيض، وأصبحت الجرائم فيهم استثناء بعد أن ظلت أصلا لمئات السنين، فتحولت العداوة إلى أخوة فاقت أخوة النسب، وتحول الانتقام إلى تسامح، وانتشر الأمن في ربوعهم حتى سار الواحد منهم من شرق الجزيرة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، وتحقق فيهم قول القرآن الكريم : (واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )(2)، في حين أن القوانين الوضعية الحديثة التي يعتبرها أهلها أكثر القوانين إحكاما في مجال مكافحة الجريمة لم تنجح بعد فيما وضعت من أجله وهو مكافحة الجريمة بعد مرور أكثر من قرنين على تاريخ وضعها، وهذا باعتراف أهلها الأصليين ومنهم قاض في محكمة النقض الفرنسية الذي تعتبر بلاده قبلة العالم اليوم في مجال التشريع خصوصا مستعمراتها السابقة ومنها الجزائر . قال السيد موريس باتان رئيس محكمة النقض الجزائية الفرنسية في افتتاح مؤتمر الوقاية من الإجرام المنعقد في باريس سنة 1959 : أنا لست إلا قاض في جهاز العدالة لم يخطر على بالي في أي وقت من الأوقات الاهتمام بأسس الوقاية من الإجرام لأن وظيفتي لم تكن هناك بل على العكس فقد كانت ولا تزال في العقاب لا في الحماية، كرست حياتي تبعا لمهنتي القضائية الطويلة في محاربة المنحرفين حربا سجالا لا هوادة فيها، سلاحي الوحيد الذي وضعه القانون تحت تصرفي سلاح العقاب التقليدي، أوزع الأحكام القاسية والشديدة أحيانا على جيوش المجرمين والمتمردين ضد المجتمع ،ساعيا ما أمكن إلى التوفيق بين نوعية العقاب وماهية الجريمة ،وكنت أسأل نفسي دوما كما كان الكثيرون من زملائي يتساءلون أيضا عما إذا كان هذا السلاح قد أصبح في يدنا غير ذي شأن، وقد شعرت ولا أزال أشعر بكثير من الألم والمرارة بما كان يشعر به أولئك الذين تحدثنا الأساطير عنهم، أنهم كانوا يحاربون المسخ فكانوا كلما قطعوا رأسا من رؤوس هذا المسخ تنبت محله رؤوس ورؤوس، وقد تعاقبت السنوات وأنا ألاحظ بدهشة أن عدد المجرمين لا يزال مستقرا إن لم يصبح متزايدا، وأنه كلما كنا نرسل الكبار منهم إلى السجن أو إلى المنفى أو إلى المقصلة كان غيرهم يخلفهم في نفس الطريق بأعداد أكثر منهم(3).
فهذا كما هو واضح اعتراف صريح بفشل القوانين الحديثة في مكافحة الجريمة
وشواهد الحال والإحصائيات تؤكد هذا الكلام، وإنما نقلته في هذا المقام من باب (وشهد شاهد من أهلها )(4) .
إن نجاح التشريع القرآني غير مرتبط بالصرفة كما يمكن أن
يدعيه البعض، كأن يقولوا مثلا إنما صرف الله القلوب والنوازع عن أن تفكر في الجريمة أو تقدم عليها على نحو صرفه للعرب أن يأتوا بمثل القرآن، وهو كلام غير صحيح أيضا فقد حاول بعض المتنبئين أن يأتوا بمثل القرآن ولكنهم فشلوا في ذلك مثل مسيلمة الكذاب، وإنما نجح التشريع القرآني فيما فشلت فيه القوانين الوضعية الحديثة بحكم اعتماده على منهج علمي فريد في مكافحة الجريمة، وكل مجتمع استند إلى هذا المنهج لا يشك أبدا في نجاحه مهما كان زمانه ومكانه، وهذا المنهج استقرأناه من النصوص المختلفة الواردة سواء في القرآن أو السنة، وهذا المنهج هو الذي نجح به التشريع القرآني في تلك الفترة الزمنية اليسيرة .
منهج الإسلام في مكافحة
الجريمة
الجريمة سلوك شاذ، يهدد أمن الأفراد، واستقرار المجتمعات، ويقوض أركان
الدول، ولذلك اهتمت المجتمعات قديما وحديثا بموضوع التصدي للجريمة ومكافحتها، ولم يخل مجتمع من آلية ما لمكافحة الجريمة، وقد تطورت هذه الآليات مع تطور المجتمعات، فبعد أن كانت مقصورة على العقاب وحده، وصلت في الدول والمجتمعات الحديثة إلى ثلاث، هي الوقايةوالإصلاح –العلاج – والعقاب، وتكشف الإحصائيات الحديثة أن هذه الوسائل لم تحقق ما هو مطلوب منها، ولذلك انبرى الباحثون في علمي الإجرام والعقاب للبحث عن وسائل بديلة، ولا يزال البحث ساريا. كما التأمت الجهود الدولية حول مؤتمرات علم الإجرام التي تنظمها هيئة الأمم المتحدة بصورة دورية ابتداء من عام 1951 ووصل عدد تلك المؤتمرات إلى عشر، عقد آخرها في فيينا سنة 2000، هذا فضلا عن المؤتمرات التي كانت تعقد تحت ما يسمى بالقومسيون، وقد توسع المشاركون كثيرا في تشخيص الأسباب، كما اختلفت نظرياتهم في سبل الكفاح والعلاج، وأنفقت بشأن ذلك أموال طائلة ولم يتغير شيء في أرصدة الدول المشاركة من نسب الجريمة، بل إن الجريمة في زيادة مطردة، وفي كل يوم يتخرج إلى المجتمع أو منه دفعات من المجرمين في مختلف صنوف الإجرام وأنواعه مما يدل على أن المناهج المتبعة في مكافحة الجريمة منيت بفشل ذريع الأمر الذي يدعو إلى البحث عن مناهج بديلة إذا كانت هناك نية صادقة لمكافحة الجريمة .
والإسلام
باعتباره دين صلاح وإصلاح قد تصدى للظاهرة الإجرامية حتى أصبح وقوع جريمة استثناء من الأصل العام في الاستقامة، وكثيرا ما كان المجرم يسعى بنفسه إلى إقامة الحد عليه أملا في تطهير نفسه من الذنب الذي ارتكبه، وقد حدث ذلك كله في مجتمع كانت الجريمة فيه هي الأصل، خصوصا جرائم القتل والسرقة والنهب والزنى، إلى جانب بقية الجرائم الأخرى وإلى بعض ذلك يشير قوله تعالى : ( واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )(5)، كما عبر عن ذلك جعفر ابن أبي طالب في خطبته أمام النجاشي عندما قال : (كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الأرحام و نسيء الجوار و يأكل القوي منا الضعيف )(6).
إن
الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي، وتحويل الظاهرة الإجرامية من أصل إلى استثناء فيه دليل قاطع على أن آلياته في مكافحة الجريمة كانت ناجحة جدا، وما دام أن المجتمعات الإسلامية الحديثة لم يصل فيها مستوى الجريمة لأن يكون أصلا كما كان عند العرب قبل الإسلام فإن منهج الإسلام هو الأقدر على مكافحتها بفعالية وبثمن أقل، ولذلك فإن الكشف عن هذا المنهج أصبح من قبيل الواجب الذي ينبغي أن يوضع موضع التنفيذ، خصوصا مع استفحال الظاهرة الإجرامية وعجز المناهج والأساليب التي وضعت لمكافحتها.
وباستقراء نصوص الوحي المتعلقة بالموضوع والواردة في القرآن والسنة،
وبالتأمل في أحداث السيرة النبوية وما صاحبها من أخبار، وما حكم به الخلفاء الراشدون، وما قاله بعض الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – وجدت أن منهج الإسلام في مكافحة الجريمة بقوم على أسلوبين رئيسيين، الأول هدفه منع وقوع الجريمة أصلا، أما الثاني فهو يأتي بعد وقوعها وهدفه منع تكرارها سواء من فاعلها أو من غيره.
ويسمي علماء الإجرام المحدثون الأسلوب الأول وقاية، والثاني يسمونه علاجا أو
عقاباً .
أولا : الأسلوب الوقائي
:
يشكل هذا الأسلوب سبقا تشريعيا انفرد به
الإسلام على مدى يصل إلى أكثر من عشرة قرون، ولم يلتفت المشرعون الغربيون إلى هذا الأسلوب إلا في القرنين الأخيرين بعد دراسات وبحوث طويلة يعود فيها الفضل إلى علماء الإجرام ومع ذلك فإن ما اقترحوه لا يزال عديم الفعالية بدليل ما يسجل من زيادات مطردة في نسب الإجرام، ثم إن هذا الأسلوب عندهم يشغل حيزا صغيرا جدا إلى جانب الحيز الأكبر الذي يشغله العلاج والعقاب . أما الإسلام فلا تقل مساحة حيز هذا الأسلوب عن مثيلتها في العلاج إن لم تزد عليها بقليل، ويمتد هذا الأسلوب بشكل متدرج من نفس الجاني المفترض إلى أن يصل إلى المجتمع كله وفق تسلسل منطقي لا يليق تقديم مرحلة أو تأخيرها عن مكانها، وهذا امتثالا لسنة الله في التغيير والإصلاح التي تلخصها هذه الآية : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(7). ويقوم هذا المنهج على المراحل التالية:
1-
الإصلاح الذاتي : فأول ما جاء به الإسلام هو تغيير
النفوس من الداخل عن طريق الإقناع بالحجة والبرهان، فالقلب هو الذي بيده أمر الجوارح التي تقترف بها المعاصي وترتكب بها الجرائم، فإذا أمسك بزمام القلب فقد تم الإمساك أيضا بزمام الجوارح، لكن كيف تم للإسلام الإمساك بزمام القلوب ؟ . لقد تم للإسلام ذلك عن طريق ربطه بالإيمان بالله تعالى لأن الإيمان عملية ضرورية و قوة خلاقة تحمل الناس على العمل و الالتزام، و لم ينكر أحد هذا الدور للإيمان حتى الملحدون أنفسهم و في هذا المعنى يقول الشيخ يوسف القرضاوي :ولقد رأينا من المفكرين و الفلاسفة من لا يؤمنون بالله ولكنهم يؤمنون بالإيمان بالله - أي يعتقدون بنفع هذا الإيمان - باعتباره قوة هادية موجهة، و قوة مؤثرة دافعة، وقوة منشئة خلاقة، لم
يستطع هؤلاء أن يجحدوا ما للإيمان بالله من طيب الأثر فـي نفس الفرد و في حياة
المجتمع، فقال بعضهم : لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقـه (، ولعل هذا أيضا ما يفسر اتخاذ المجتمعات القديمة لآلهة من صنع أيديهم لما يعلمونه من فائدة بالنسبة للاستقرار الاجتماعي، و يقوم الإيمان في الإسلام على ستة أركان و لكل دوره في التأثير على الفرد، فعندما يؤمن الفرد بالله و ما له من صفات كالسمع والبصر يشعر و يعلم أنه مراقب في كل مكان وفي كل زمان وتتولد عنده رقابة ذاتية و هي أهم بكثير من رقابة الغير الذين يجوز عليهم الغفلة و النسيان و غير ذلك من النقائص، وعندما يؤمن بالملائكة وخصائصهم و طبيعة وظائفهم يعلم أن كل ما يقوله أو يفعله يسجلونه عليه فيدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يسجل عليه و منها الجرائم، و عندما يؤمن باليوم الآخر و ما فيه من حساب و عقاب يدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يحاسب عنه يومئذ، روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سمع يوما امرأة غاب عنها زوجها في الجهاد تقول : تطاول هذا الليل واخضر جانبه وأرقني إذ لا خليل ألاعــبه
فوا الله لولا
الله لا شيء غـيره لحرك من هذا السرير جوانبه
وفي رواية أخرى ذكرت أبيات غير هذه
آخرها هذا البيت:
ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه

فسأل
ابنته حفصة كم تحتاج المرأة إلى زوجها ؟قالت : في ستة أشهر، فكان لا يغزو جيشاً له أكثر من ستة أشهر(9). وروى ابن القيم في الطرق الحكمية عن علي – رضي الله عنه – أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط – أي يضطرب – في دمه، فسأله فقال : أنا قتلته، قال : اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا، فقال : يا قوم، لا تعجلوا ردوه إلى علي، فردوه فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله ؟ قال : يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة وخفت ألا يقبل مني، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله . فقال علي : بئس ما صنعت فكيف كان حديثك ؟، قال : إني رجل قصاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها،
فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة
كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي فأخذوني، فقال الناس : هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه . فقال للمقر الثاني : فأنت كيف كانت قصتك ؟ فقال : أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعا في ماله، ثم سمعت العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس، فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق . فقال للحسن: ما الحكم في هذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين : إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالىومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )(10)، فخلى علي عنهما، وأخرجت دية القتيل من بيت المال(11). فهذان المثالان فيهما إشارة واضحة إلى أثر الإيمان، ففي المثال الأول كان الإيمان باليوم الآخر و ما فيه من العذاب مانعا من جريمة الزنا، ونفس الإيمان هو الذي كان السبب في إحياء نفسين في المثال الثاني .

No comments:

Post a Comment